التصنيفات
تدوين سقوط موطئ للبديهة

الأدبُ فعل تمنع وتمتعٍ ومقاومة

رسالةٌ إلى صديقةٍ جيدة .

وتعليقاً على فكرتكِ عن دور الأدب في خلقِ ردةِ الفعل ، أو في خلقِ التفاعل .. أقول :

الأدبُ يا سيدتي هوَ فعلُ تمنعٍ ومقاومة ، لا فعلُ تمتعٍ فقط . والأممُ غالباً تنهضُ بنهضةِ أدبائها أولاً ، وليس علمائها . لأن الحياةَ العلميةَ الخالصة ، هيَ حياةٌ مملةٌ مزهقةٌ لروحِ الإبداع .

ألم تقرأي لألبرت أينشتاين وهوَ يحكي عن اكتشافه للنسبية ، قال :

” لم أكتشف النسبيةَ وأنا في معملي ، أو بين المعادلاتِ والأرقام ، بل اكتشفتها وأنا مستلقٍ على تلةٍ خضراءَ ، وسافرتُ بفكري معَ شعاعٍ شمسي ، وكنتُ أرفضُ أن أعود . وسرحتُ بخاطري معَ خضرةِ الحقولِ ، ومرجِ الأرضِ.. وكنتُ أدعُ نفسي تتعجبُ وتنبهرُ بالجمال ” .

فالأدبُ ضرورةٌ وليسَ خياراً .. ليسَ مِمَّا يُمكننا الاستغناءُ عنه بسواه .. فلا يُمكنُ أن ندع الأدب ونكتفي بالفسلفةِ مثلاً ، زاعمينَ أن الفسلفةَ أجدى ، وأكثر منطقية . فما سنفتقده هنا هوَ جدوى الفلسفةِ في إمتاعنا ، وأيضاً تحريضنا على الإحساس والشعور .. فلن تهدينا الفلسفةُ منطقاً مقاوماً أو متفاعلاً أبداً ، لأن المقاومةَ تُعتبرُ فكرةً غير منطقية بالنسبةِ لعلومِ الفلسفةِ والمنطق .

إن الحنينَ إلى الأدب ، إلى الإنصاف ، إلى المثالية ، إلى القيمِ الساميةِ ، يبدأُ منذ أولِ إحساسٍ جميلٍ تهديهِ إليكِ الكلماتُ التي تقرأينها ، ومعَ أولِ فكرةٍ مبدعةٍ تجولُ في خاطركِ المرهف . وهوَ قرينُ الرغبةِ إلى الفعلِ المماثل ، والكينونة المماثلة .

وسرعانَ ما يتولدُ من الإعجابِ هذا ما يشبهُ الرفض ، رفضُ ما يسجنُ الإرادة ، والتأكيدُ على الحريةِ المنافيةِ للإجبار ، والزمن ، والتقاليد ، واللغة ، وللدعواتِ القمعيةِ ، وللرجالِ الخارجينَ من بطونِ التراث ، الذينَ انتهكوا قدسيةَ التاريخِ ، وأتوا بهِ يرسفُ في ذكرياتهِ ليكونَ منهجاً حاضراً للزمنِ الحديث .

الإنسانُ هوَ اختيارُه ، واختيارُهُ هذا علامةُ حريتِهِ وشعارُ مجدِهِ . والإختيارُ فعلُ تحركٍ نحوَ الآتي . وإبحارٍ نحوَ الأفضل . إنه وصلٌ للإنقطاعِ الذي يفصلُ بينَ زمنِ الرمادِ وزمنِ الورد ، بينَ أزمنةِ الذاكرةِ ، وأزمنةِ التخيل .

الرفضُ يا سيدتي علامةُ الحياة .. ودليلُ الابتداء .حتى الجنينُ عندما يضربُ بطنَ أمه ، يبدأ حينها مشوارَ تمرده .. إنه يريدُ أن يخرج . يريدُ أن ينطلق . ولهذا فهوَ يضربُ برجلهِ ، ويتحركُ ويتململُ في مكانه ..حتى يخرجَ فيكونُ أوَّلُ ما يفعله هوَ البكاء ، والاعتراض على وجوده الجديد ، وواقعه الجديد .

ولعلَّه كان محقاً من قالَ : تبزغُ شمسُ الحقيقةِ بالضرورةِ حيثُ ينهضُ التمنعُ والمقاومة .

عندها يُولدُ الفكرُ الحر .

دمتِ لي سيدتي الفاضلة .. وها أنا أجدُ بكِ عوضاً رائعاً عن أشياءَ كثيرةٍ تنقصني .. فأنا إلى الآن أعاني عدمَ الاستقرار ، والتشاؤم .. في الحقيقةِ أصبحت لي أكثر من عادةٍ سيئةٍ منذ وصلتُ إلى قاهرةِ المُعزِّ هذه ، والتي هيَ الآن مقهورةُ حسني غير المبارك . وكونكِ دائمة السؤال والاطمئنان عليَّ ، ودائمةَ التحريضِ لي على الكتابة ، فإنكِ تُعتبرينَ بمثابةِ رقيبٍ على نبضاتِ قلبي تزجرينه إن توقف لحظةً عن النبضِ زُهداً في الحياةِ ، وفي كلِّ شئ .

دمتِ لي محرضةً ، ومشجعةً .. ودمتُ لكِ متفاعلاً مثالياً ..

ألتقيكِ على أدبٍ عزيزتي ..

تعليقين على “الأدبُ فعل تمنع وتمتعٍ ومقاومة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *