القاهرة. أوقاتُ ما بعدَ العجائبية. توثيقٌ من داخل رأسي المتصدع.
في طريقِ عودتي، وفي الميكروباص الذي أقلني، اختار السائقُ أن يسلكَ طريق صلاح سالم على الرغمِ من الزحام الذي يتراءى للبصر مباشرةًً من مدخل الطريق، والذي يُعرفُ بمجرد الحدس، حيثُ أن استاد القاهرة الدولي، والذي شهدَ اليوم آخر مباريات بطولة أمم أفريقية، يقعُ في منتصف الطريق. كانت البطولة بين المنتخب المصري ومنتخب ساحل العاج.
كنتُ في حالةٍ يرثى لها من الإرهاقِ والمزاج السئ. ولم أكن على استعدادٍ لتحمل مثل هذا الزحام، في مثلِ هذا الوقت تماماً. لم تمضِ دقائق حتى كانت السيارة تمخرُ ببطءٍ نهرَ الزحامِ الراكدِ وسطَ أكوامٍ من الأعلامِ والهتافاتِ الصاخبة، وأصوات المفرقعات والصواريخ الاحتفالية تملأ سماء المنطقة. عندها علمت أن المنتخب المصري قد فاز، وعلمتُ أيضاً أنني قد علقتُ وسط هذا المهرجان المزدحم، وكان هذا أسوء ما قد أفكرُ في تحمله.
بينما كان ركاب الميكروباص يتفرجونَ باهتمامٍ، ويتبادلونَ الأحاديث حول المباراة والفوز، كان رأسي ينشقُّ من الصداع.
لم تمض دقائق أخرى، ومع تقدم السيارة البطئ، حتى بدأت بعض المظاهر الاحتفالية في شدِّ انتباهي. فبالقرب من المداخل المؤديةِ إلى الاستاد، كانت تجمعات بشرية كثيفة، تتغطى بالأعلامِ وتتصارخُ بالهتافاتِ والتصفيق، وهالاتٌ من النيران تشتعلُ في أيديهم من خلال عبوات البيروسول ومعطرات الجو. حتى السيارات، بدأت في التناغمِ مع مظاهر الفرح وبدأت في عزف سيمفونيةٍ صاخبةٍ وغير متناغمة بأبواقها.
كان هذا الازدحام المُبرر دافعاً لي كي أفكر بالتفاعل ولو قليلاً. حاولت طردَ الصداع، أو تناسيه. حاولت أن أمررَ فكرة الفرحة إلى داخلي، لكنني وجدت الاستجابة تتحول إلى ابتسامةٍ مُرهقةٍ لم تُفارق وجهي وعقلي حتى خرجنا من الزحام.
راودتني بعض الأسئلة التي – رغم الصداع- لم تمتنع عن التوارد على الخاطر، إلا أنني لم أجهد نفسي في البحث عن أجوبة، كما أني لم أغضب من أجل ذلك، ولم أشعر بالسخريةِ أيضاً.
ففي الوقتِ الذي يمرُّ فيه المصريون بأصعب أوقاتهم، وبتحدياتٍ تفرضُ نفسها بدافعِ رداءةِ الأحوال، يحاولُ هذا الشعبُ المسكين اقتناصَ الفرحة. ولو من خلالِ التفاعل الأعمى والمُبالغِ فيه معَ بطولةٍ لن تُغني عَنـَّا من الحضارةِ شيئاً. هذا الاحتشاد الجماهيري، لم تحظَ به أيةُ أحداثٍ سابقة عل مرِّ السنواتِ القريبة، حتى في الانتخابات الرئاسية.
إنني أعرفُ جيداً المعنى الشعبي والوطني بالنسبة لمتابعة الرجل العادي لمثل هذه البطولة، بل والاحتفال من أجل الفوز. إلا أنني أتساءلُ: لماذا لم يعد في مقدور الشارع العربي عامةً، والمصري خاصةً، الاحتشاد والاجتماع على هدفٍ واحدٍ سوى في لعبة الكورة؟ أين ذلك الحس الجماعي بالرفض للانتهاك، والثورةِ على الخواء، من شعوبٍ تتخبطُ في ظلاماتِ الجهلِ، وتعيشُ وقائعَ القهرِ اليومي والسلب العلني؟
إن المظاهرات التي تحدث أحياناً هنا أو هناك، لا تُمثلُ سوى جزءٍ ضئيلٍ من حراكٍ مُجتمعي مُقيد. بينما لم تُفكر هذه الجماهير يوماً في الالتفات لحقوقها أو النضال من أجلها.
هل تُرى الشعب المصري قد أصيبَ بالتدجين، أم لأنه من كثرةِ ما وقعَ عليهِ من ظلمٍ، فقد الإحساس به؟
هناك ظاهرة مهمة تتراءى لأي مراقب للأوضاع، وهو أن عامة الشعب، رغم سخطهم، إلا أنهم محكومين بخوفٍ كخوفِ العبيدِ من أسيادهم.
سيسجلُ التاريخُ فيما بعد، أن الأمةَ المصرية في أحدِ أسوء عصورها، كانت مُجردَ أمةٍ من العبيد.
فاتني أن أذكر أن بيتاً كان يجول بخاطري أثناء مرور الميكروباص من صلاح سالم، ورؤيتي لمظاهر الاحتفال، هو بيت أحمد بن الحسين المتنبي:
وَكم ذا بِمصرَ من الْمُضحكات …. وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كالْبُكَا
اترك تعليقاً