الدَبَابِير والشَّرف – رسَالةٌ عَنِ الخَسَارة

إهداءٌ أول : إليكِ في عتمةِ الحلم. في تأوهِ الغرفةِ ليلاً. في كلِّ مهربٍ تلوذينَ به كي تنعتقي قليلاً.

إهداءٌ ضائع : إلى القسوة . تلك الصفة القابيليةُ المتأصلة في صنفٍ من البشر، لا يُشبعونَ نهمها العاهر إلا على الصنفِ الآخر.

إهداءٌ سابع: إلى ماركيز، الذي ألهمني الحقيقة التالية: ليسَ هناك في الحياةِ مثلٌ أعلى جديرٌ بالاحتقارِ والازدراء، من قياداتِ المباحث ورجالات أمن الدولة والعسكريين المتأصلين، الذين يوشكُ أحدهم أن يتحولَ إلى طاغيةٍ دونَ علمٍ منه.

إهداءٌ ليسَ أخيراً : إلى أشباهي وأشباهكِ .

متأخراً عن الميعاد المتوقع للكتابة، ها أنا أكتبُ. دونما كثيرِ شجن، ولا استعدادٍ أدبيٍ أو غير أدبي. لا مراجعَ، لا أفكارَ مُحددة، أشعرُ بصفاءٍ كئيبٍ وفارغ، أشعرُ بأنه سيكون أفضلَ لو لم أكن واعياً بما يحدث.

متأخراً عن صحوي بساعتين. الساعةُ الآن التاسعة صباحاً. غرفتي لم يدخل إليها ضوء الشمس بعد، أظنني لن أسمح له اليومَ ليفضَّ بكارةَ العتمة المتجددةِ في حجرتي. أحتاجُ أن أبقى في الظلام، فقرصُ المنومِ الذي أخذته بالأمس كان أثره قوياً، ربما لأني لم أتناول أي طعامٍ منذ الثانية ظهراً ليوم أمس. إنها حفلةُ الميلاتونين في جسدي هذا اليوم. سأكتفي بأكواب الشاي والحليب، وبالضوءِ المنبعثِ من الشاشةِ، والبصيص المتسربِ خجلاً من باب الغرفة.

حلميَ الحالي أن أموتَ من التعب. من الوعي بالحقائقِ المنتقاةِ على شرفِ الخسارة. سأحدثكِ يا حبيبتي عن الخسارة.

***

في يومٍ لم يتمكنْ فيه رجالُ الوطنِ من معانقةِ الشرف، سادت الفجيعةُ أرضَ الذاكرة. يومٌ لم يتغير فيه شئٌ عدا مستجداتُ الفقد في سبيل الوطن. إنه تغيير كافٍ ليجعلَ العالمَ يبدو أسوأ مما هوَ عليه الآن. سيتحدثُ الآخرونَ كما لو أنهم حريصونَ على المواساةِ أو التبريرِ المفتعل. لن أفعل ذلك. ثقي يا حبيبتي. ستجف الأحداث الدامية، وتموت الحياةُ من الذاكرةِ قبلَ أن يموتَ التذكر.

كما يتم البحثُ في مقلبٍ للفوضى، بقلقٍ ولهفةٍ للعثور، برغبةِ الاهتداءِ ويقينِ التحقق.وكما هو إدراك حقائقِ الحياةِ في وقتٍ متأخرٍ من العمر، يكتمل اليومَ شعوري بالخزي التام تجاه كل الأوطان. لم نعد نريد وطناً، بل نريدُ مستقرَّاً.

أعلمُ ما ينتابكِ، إنها لسعةُ وطنٍ يمتلئُ بالدبابير، فلماذا الاستغراب حبيبتي؟ لنجعل الأمر يبدو كما كنتِ تحدثيني في الهاتفِ، بوعيٍ جريح. ثمةَ من أماتته دبابيرُ الوطنِ، ليختنق ملسوعاً بوهمٍ وطني.
فلتعترفي معي ، لستِ حانقةً ولا غاضبة، إنه خذلانٌ مثالي، فلماذا عدمُ الإعجابِ به؟
ولماذا عدمُ الإيمانِ به؟

الوطنُ أصبحَ بيئةً للتناقضِ العفوي، أتساءلُ لماذا لا يتم احتساب الخزي كأحدِ المشاعر الوطنيةِ اللازمِ توفرها من أجل الإيمان والعطاء. ما دامت الوطنيةُ في النهايةِ هي التخلي عن الحقدِ في مواجهةِ الاغتصاب العلني. وهي الاستسلامُ البرئ لمجموعةٍ من الأفكار الماكرة.

الوطنية الآنَ يا حبي كئيبة، ومعوقة، كفكرتنا عن البؤس. فلا تتوقعي سيادةَ الإنسانِ ما دامت الدبابيرُ تواصلُ اللسعَ في غابةٍ من الفوضى.

لنعتذر للإنسانِ في داخلنا. الراسبونَ من حولنا، الماكرونَ الخادعون. أشباه الحثالةِ والحيوانات يتحكمونَ في رغباتنا. عذراً أيها الإنسان. لو كان بيدِ أحدنا أن يكونَ إلهاً لاختار نفي هذه الأوطانِ بكل محتوياتها إلى ثقبٍ أسود.

بعد عدةِ سنواتٍ من الآن، سيتذكرُ المارونَ بهذه الردهات المؤقتة لحفلة الفجيعة الصامتة، حفلتنا على شرفِ الفقد المشترك، في صباحٍ دون ضوء، سيتذكرون كلاماً كثيراً عن خُراء الوطن، وعن معنى الخسارةِ دون النظرِ إلى جدارٍ يابانيٍ قديم، نُقشت عليه قصيدةٌ تقول: لا يُمكنُ قراءةُ الخسارة، يُمكن فقط الشعورُ بها. حسناً حبيبتي، معَ خسارةٍ كهذهِ سيكونُ ممكناً ما هوَ أكثر من القراءة.علينا أن نُعدَّ الكلماتَ كي تصمدَ طوالَ أبدٍ ما، وتسببَ الحقدَ لمدةِ قرنٍ على الأقل. دون أن نُصاب بالحقدِ تماماً. دونَ مشاريعَ للغضب طويل الأمد.

سأكتبُ وإياكِ الكلمات بوحيٍ من الدوامِ المستهلك. يا عشتار. عليكِ واجبٌ حياتيٌّ في الكتابةِ عن هذا الأمر، مثلما عليَّ تماماً. نحن زوجي الحمام الأبيضينِ والغائبينِ، المتوحدينِ، العاشقينِ بلا أسلوب، المجتمعينِ بلا لقاء. لا يُمكن لقدرٍ أن يمرَّ بطريقكِ ثم لا أحلمُ به. أو أبكي لأجله. فلتدعوني مساءاتُكِ لاقتحامِ فِجاجكِ البعيدة، ومشاركة الكتابةِ في أماسي الوحدة. والتعري بحضور العتمة.

لن أواسيكِ كما قلتُ لكِ، ولن أتلو عليكِ بياناً جنائزياً حزيناً لرثاءِ ما ضاع، لكنني أعلمُ يا حبي، أنكِ ستتذكرين اغتيالَ ذكرياتكِ في موعدٍ متأخرٍ من الشيخوخة، وستبتسمينَ بألمٍ لما قد يعنيه التذكرُ في مثل ذلك الزمنِ القادم. ستودي بنا الأيامُ إلى متاهاتٍ غير معهودة، سوياً أو وحداناً، فدعينا نؤسسُ لتمريرِ رغبات العشقِ والموت المتحررِ إلى خاطر الأمنيات البعيدة، بينما يسعنا الآن الاستمتاع بحبٍ لا ينقضي عند الصباحِ، أو يتهور وقت المساء.

***
كان جبريل فاريشتا في رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي يغني أثناء نزوله من السماء: ” لكي تولدَ من جديد عليكَ أولاً أن تموت. ولكي يستقر المرء على الأرض الناهد، عليه أولاً أنْ يطير. كيف يمكنكَ أنْ تستعيد الابتسام، إذا لم تبكِ أولاً ؟ كيف يمكنكَ أنْ تفوز بحب الحبيبة، يا سيد، إذا لم تتأوَّه ؟ ” ….

لذا حبيبتي، سنعتبرُ ببدائيةِ الفلسفة، ونؤمنُ -ولو قليلاً- بتلك النظريات التي لاتقدر على إسعادنا، لكنها تكون كفيلةً بتسليتنا بينما نعثر على الحقيقة.

الحقيقةُ التي تسببُ الهلعَ، والإدمانَ، والتشرد المعرفي في منتصف رحلةِ الإدراك. الحقيقة التي تبدأ بالسقوطِ من السماء. من أوهامِ المثاليةِ والوطنيةِ إلى فسقِ الواقع. ليسَ على أحدٍ أن يتخلى عن أفكاره ما لم يخسر نصفها، عندها يبقى النصف الآخر بلا قيمة سوى بالتخلى عنه، والبدء من أقصى نقطةٍ في مقدور التخلي.
البدايةُ من العَراء، لا غير.

***

ها أنا أواصلُ الكتابةَ. على الكرسي الذي أجلسُ عليه الآن، يقبعُ جسدٌ هامد، تخيطُ ملامحه خيوطُ الظل والنور المنبعث من شاشة التلفاز. تركيزي لا يتناغم مع أي شئٍ مما أشاهده أو أسمعه. فكري الآن يقبع على بعدِ أمتارٍ منكِ، يرقبكِ بغلائلَ بيضاءَ، تتمددين فوق سريرٍ للحزن، ودخان شفاف أبيض يتسللُ من سيجارةٍ تلتصقُ بشفتيكِ، فيضج الإحساسُ ببعدِ الرائحة.

تُسليني عنكِ أحياناً رائحةُ المناديل. أشعر أني لو وجدتكِ فلن أجدَ لذةً لمناجاةِ المناديلِ بعد ذلك. ألفها على عنقي كما في يوميات الفيديو. أغمِّي بها عينيَّ عند الاسترخاء المتكاسل. ثم أرميها على المكتب بلا مبالاةٍ أو عرفان إعلاناً عن غضبٍ غير صريح.

أفكرُ لو لم نكن غرباءَ في عالمٍ من التناقضات، لما كنا غير غاضبين في عالمٍ من الثورات. فماذا ينتظرنا، الغربةُ أو الثورة. يا لها من خياراتٍ إكلينيكية لعشقٍ يحلمُ أن يمدَّ جذوره خارج مساحةِ الحلم.

لقد تعبتْ الحياةُ من تمنياتِ الأفضلِ التي نفرضها على أفكارنا الحياتية. لقد ضجَّت مشاعرنا من الأملِ الكاذب. لماذا لا نعاملُ الوقاحةَ كفضيلة، والاستبداد كرمزٍ للإنسانية، والخزي كشعورٍ وطني عام، لماذا لا تكون الخسارةُ هي مطلبٌ مُلح من أجل حياةٍ كريمة. الخسارةُ فريضةٌ على كلِّ مواطنٍ يرغب بالانتماء لهذا العالم. إنها الخلاصُ والنجاةُ والطريقُ المودي إلى آخرةٍ دونما تساؤلاتٍ كثيرة. سيكون الأمر كالتضحيةِ المستحبةِ من أجل الفوز بحياةٍ أفضل.
من لم يخسر سيظل مرهوناً بخوفه من الخسارة، أما من خسرَ فقد أفضى إلى راحته.
أيها الخاسرونَ المرتاحون، هنيئاً لكم.

أيها الخاسرون المفجوعون، سيكونُ عليكم تعلم الحكمةِ أمداً قبل أن ترتاحَ قلوبكم، وقبل أن تثقوا أن ما تجاوزكم لم يكن ليبقى لولا رغبةُ الإرادة الإلهية في تقليدكم شرفاً سيبقى بكم، ويتجاوزكم إلى من بعدكم.
وأنتِ يا حبيبتي، أيتها الخاسرة الأجمل، لنرقص. فعليَّ دينٌ أوفيه بتحملِ تبعاتِ هذه الحكمة المجنونة، وأظنني سأتماثلُ لسداده حين أجدُ خطاباً منكِ يُخبرني بروعةِ الحياةِ على شرفِ الخسارة، وبطريقتكِ الجديدة لرقصةِ الخسارة.


Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *