في مصرَ لا تَتَشابَهُ السَّاعَات

كانت مصرُ لساعاتٍ معدودةٍ، وكما هي دوماً بالنسبةِ لشخصٍ ما، فاجعةً تفتحُ أحضانها للعابرين والمقيمين. كانت هاويةً تبتلعُ قدرةَ العابرِ على الدهشةِ الأولى، وتُجددُ إحساسَ المقيمِ بالمنفى.

كانت أيضاً، أسلوباً للمشي المتواصلِ ليلاً حتى التعب. كانَ النيلُ يتنفسُ ببرودةٍ كعادته، فيهبُّ نسيمٌ عليلٌ على الواقفين فوق الجسور وعند الضفاف.

فوقَ الرصيفِ، جلوساً، ثمةَ دائماً متسعٌ لاثنينِ منهكانِ من المشي، وفوقَ الرصيف، ثمة دائماً فسحةٌ للتأمل.

ليلةً قضيتها معَ آشور الذي وصلت طائرته إلى القاهرة في العاشرة مساءً، إثر انتظارٍ دامَ لمدةِ ساعةٍ ونصف.
كان زنجي قد لحقني إلى المطار بعدما كادَ لا يأتي. كان استقبالاً جيداً، لصديقٍ جيد، لا يحملُ حقائباً كثيرة، لأنه دوماً على قيدِ رحيل.

كانت الفنادقُ أسلوباً للفضحِ الكامل. الأمر لا يتعلقُ بلؤمِ أحدٍ، سوى لؤمِ القانون، وخبثِ القائمين على تطبيقه، الذين لا يهمهم في النهايةِ سوى امتلاء أرصدتهم بمزيدٍ من الملايين كل يوم، حتى لو ادعوا لطفَ المقصدِ، وباشروا بنشر الإعلاناتِ في كلِّ القنوات، وعلى الرغم من كل ابتسامات ” البيزنس” التي يفتعلها داعروا التمثيلية الإعلانية المسماة: نورت مصر.

كثيرون يعلمونَ – وأنا منهم – أنَّ مصرَ بلدٌ لا تقتاتُ على السياحةِ، وإنما تقتاتُ بالفضلاتِ التي يسمحُ بها النظام النَّهاب لكل شئ. لأولِ مرةٍ بالأمس أدركُ حقيقة التمييز الآثم بين المصري – كابن بلد- والزائر الأجنبي – كسائح – . حاولت إجراء مناقشةٍ معَ موظفِ الفندقِ الذي أخبرني أن غرفةً واحدةً مكيفة تُكلفني كمصري 125 جنيهاً في اليوم الواحد، بينما تكلفُ الزائر غير المصري ضعف هذا المبلغ، وأن هذه تعاليم رسمية من الحكومة المصرية.
لم تنجح محاولتي لنقاشه، لأنه فيما يبدو ليس معتاداً على هذا النوع من الحقائق البشعة التي يُدركها الجميع، لكن لا أحدَ يتحدث فيها. لماذا؟ لأنها أصبحت شرعيةَ البلاد، وشرعية ابن البلاد. فالاستغلال ظاهرةٌ لم تعد قاصرةً على استغلال السائحين، بل تطال حتى المصريين أنفسهم، وأصبح من البدهي أن يُعامل سائق التاكسي مثلاً راكباً سعودياً أو بريطانياً بغير ما يُعامل به راكباً مصرياً. ومن البدهي أن يدفع السائح ضعفَ ما يدفعه الجميع ثمناً لعلبة بيبسي أو قارورة ماء. ومن البدهي أن يعتبر كل شخص عادي يعمل في مجال السياحة أن الأجنبي هو إنسان قابل للاستغلال، وأن استغلاله نوعٌ من أنواع الشطارة أو الجدعنة.
المؤلمُ في الأمر، أن تكون هذه الظاهرة مُدعَمَةً بالقانون، أي أن الاستغلال، يُصبحُ من ضمن أخلاق المهنة، وبدهيات العمل مع الزائر لمصر.

في مصرَ، تُباع الأخلاق. أي أن السائح يجب أن يدفع كي تتم معاملته كإنسان، بلطف، وبرقي، وبحضارة. لا يُمكن للقانون أن يكون لطيفاً معَ المصريين بهذه الطريقة لأنه نظامٌ يبيع اللطفَ لمن يستطيع الدفع. والمصري العادي لا يستطع الدفع مقابل الحظوة بمثل هذه الأخلاق والمعاملة الإنسانية الراقية.
إن تخصيص شرطةٍ للسياحة أمر يُثير التساؤل، لأن الطبيعي أن أمنَ المواطنِ والزائر تكفلهما الجهات الأمنية على حدٍ سواء. إلا أن النظام يرى أنه مقابل الاستغلال الذي يفرضه على الزائر، بدءً من أسعار الفنادق، إلى قوائم الأسعار السياحية المقننة في المطاعم والصالات السياحية، إلى أسعار تذاكر المزارات والمتاحف، يرى النظام أنه يجب أن يوفر شرطةً خاصةً للسياحة، بينما يُخصص أجهزةً أخرى من أجل انتهاك كرامةِ وحرمةِ المواطن المصري.

في مصرَ، إن كنتَ أجنبياً، فيمكنكَ أن تحظى بكل دعمٍ واحترام من شرطي المرور، وضابط الشرطة، وموظف الفندق، طالما أنكَ مستعد للدفع.

الزائرون لمصرَ غالباً ما يكتشفونَ الوجه القبيح المتخفي خلفَ كلمات الترحاب، وإعلانات الدعوة السياحية، بمجرد وصولهم إلى المطار أو الحدود المصرية. إنه اصطدامٌ بشع، ومُخيب للآمال.
أما المصريون أنفسهم، فإنَّ استغلالهم لا يتم بهذه الطريقة الترفيهية، بل يتم امتصاص دمائهم عن طريق منظومةِ القهر اليومي الذي يقابله المصري في الشارع، وفي العمل، وفي الأوضاع السياسية، والاقتصاد الوطني العاهر.

***

صديقي العزيز، آشور. نورت مصر. أقولها لكَ، لا كالإعلانات العاهرة، وليس كالآخرين، وليس من باب الغناء على ذات الإيقاع.


Comments

ردان على “في مصرَ لا تَتَشابَهُ السَّاعَات”

  1. رغم كل هذا الجشع المتأصل في الكراسي الجلدية الدبقة.. تابعا متعتكما الطفيفة، ووافونا بأجمل أخبارها ..

    كونا بكل خير ..

  2. “نورت مصر” بجد يا آشور..
    🙂 تصدق أول مرة أقرأها كده..رغم إني متابعة نَهِمَة..

    يارب تستمتعوا رغم كل شئ..

اترك رداً على هديل إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *