الدراسةُ لم تُغير وجهَ العالم، ولكن الإبداعَ هو الذي يُغيره. القدرةُ على الخلق هي أسمى القدرات الإنسانية، لأنها صفة إلهية.
أكاديمياً، لم يكن أينشتاين منذُ صغرهِ يتقبلُ كثيراً فكرةَ النظام المدرسي، بل كان يكره رتابته المملة وروحه الخانقة، ويشاع أنه رسبَ في مادة الرياضياتِ المدرسيةِ، و في الجامعةِ كادَ أن يُطردَ من الكلية بسببِ أحلام اليقظة. ربما كانَ يُحسُّ بأن طبيعةَ الفكرِ المتعدي والخيالِ الواثب، أكبرُ من أن تخضعَ لمحدوديةِ فرضِ التصور أو الرؤية، فكان يهيمُ كثيراً معَ أحلامِ اليقظة. وربما يكون الأمرُ أبسط من ذلكَ، فمنهجيةُ التعاطي معَ علومٍ معينةٍ مثلَ الرياضياتِ أو اللغةِ أو غيرهما، قد تكونُ مفيدةً على نحوٍ علمي، بينما تصبحُ قاتلةً للاتجاه الإبداعي.
أديسون أيضاً، لم يُقرر الأساتذةُ أنه فاشلٌ دراسياً، إلا عندما فاقَ تصورُهُ للدروسِ قدرةَ معلميهِ على الشرح ، ولذلك لم يمكث في الدراسة الرسمية سوى ثلاثة أشهر.
ولأنَّ الإنسانَ كائنٌ متأملٌ بفطرته، فقد يكونُ الخيالُ اللاعلمي هو سرٌّ من أسرارِ الإبداعِ العلمي، وحسبَ أقوالِ أينشتاين نفسه، فإنه لم يكن يهتمُّ بحشوِ دماغهِ بالأرقامِ والمعادلات، ولم يكتشف النسبيةَ وهوَ في معمله، أو بين الأوراقِ والنظريات، بل اكتشفها وهوَ مستلقٍ على تلةٍ خضراءَ، وسافرَ بفكرهِ معَ شعاعٍ شمسي، وكانَ يرفضُ أن يعود، وسرحَ بخاطرهِ معَ خضرةِ الحقولِ، ومرجِ الأرضِ. وكانَ يدعُ نفسه تتعجبُ وتنبهرُ بالجمال. ونتيجةً لتأثرهِ بهذه الرحلة الخيالية؛ فإنه عادَ إلى لوحهِ ومعادلاته منطلقاً من قناعتهِ بأن خياله أكثر صحةً من تعليمه الرسمي. ألم يتحيرُ العلماءُ زمناً كيفَ توصلَ أينشتاين إلى افتراض أن نظرياته صحيحةً رغمَ قلةِ ما توفرَ لها من براهينَ تثبتها آنذاك ؟
ولعلَّ رفضَ السائدِ يكونُ سمةً مشتركة بين كثيرٍ من المبدعينَ والعلماء ، فإن رفضَ ما يُعطى إليكَ على أنه أجدرُ وأنفع، قد يكون الطريقَ الأيسرَ للتحررِ من غبشِ الاتباعِ والتقليد. ولقد كانَ مُحقاً من قال : تبزغُ شمسُ الحقيقةِ بالضرورةِ، حيثُ ينهضُ التمنعُ والمقاومة.
ألم يواجه جون ناش ، عبقري الاقتصاد الحديث ، والحائزِ على جائزة نوبل في علم الاقتصاد عام 1994، ألم يواجه بأبحاثهِ مائةً وخمسين سنةً من القناعاتِ المسيطرة ، والأبحاث الراسخة في علم الاقتصاد؟
ألم ينقض محمود شاكر ، علامةُ الأدبِ وداهية اللغةِ وشيخُ المحققين ، الاتجاهَ الأدبي السائدَ في عصرهِ، ويؤلفَ كتاباً عن المتنبي يواجهُ فيه كلَّ ما كُتبَ عن هذا الشاعرِ مُنذُ وفاتهِ وحتى وقت شاكر ؟ ألم يؤسس في هذا الكتابِ الفذ لمنهجِ الاستقراء وتذوق الكلام ، كما أسَّسَ لسيرةٍ أخرى غير التي نعرفها عن المتنبي، تقولُ بأن نسبه يعود إلى العلويين، وأنه لم يكن ابناً لأحدِ السقائينَ في الكوفةِ ، وأنه كان يحبُّ خولةَ أخت سيف الدولة، وأنه لم يمت مقتولاً على يدِ فاتكِ الأسدي كما هوَ مشهور ومعروف ؟
ألم يكن محمود شاكر – رغمَ ذلكَ – راسباً في النحو وكارهاً للدراسةِ الأكاديمية ، متجهاً للتحررِ العلمي والثقافي ، والذي جعله فيما بعد يؤلفُ الرسالةَ العظيمة : رسالةٌ في الطريقِ إلى ثقافتنا، ويردُّ فيها على طه حسين والمستشرقينَ وثلة من رجالاتِ العلمِ والأدبِ في عصره ؟ ألم يكن منطقُ التمنع والمقاومة ذاته ، هوَ الحافزُ والمحرضُ على كلِّ ما خاضه شاكر من حروبٍ ومعاركَ فكرية لم تنتهِ بمجرد موته ، بل ظلت كتاباته التي تحملُ قناعاته تحارب من بعده ؟ لقد كانَ عقلاً ينقضُ أعتى المُسلَّمات بطريقةٍ تُثيرُ الإعجاب .
إن عقلياتٍ من هذا الصنف من حقها أن تكون فاشلة دراسياً ، لا من أجل الشعور الطاغي لدى هؤلاء بفداحة التمرد على ما هو روتيني ؛ ولكن لأن الدراسة المدرسية أو الأكاديمية غالباً ما تكون إجباراً للعقلِ على السيرِ في اتجاهٍ واحد . إنها لا تضئ سوى زاويةٍ واحدة من زوايا المشهدِ المطلوب رؤيته ، وهذا هو الذي يحدث غالباً إلا إذا حالفَ الحظُّ بأستاذٍ مبدعٍ قادرٍ على تمريرِ أفكارهِ الإبداعية في ثنايا درسه . لذا فإن الفشلَ الدراسي هو نتيجة طبيعية لكل عقليةٍ تحاول التجاوز إلى ما هوَ أبعد . ورؤيةِ ما هوَ مُعتم .
وقد يكونُ الفشلُ الدراسي إحدى نتائج اختلاف التناول العقلي وطرق التفكير في المعلومة الواحدة، فاختلاف التفكير بين الملقي والمتلقي يؤدي إلى اختلاف النتيجة رغم أن المعطيات متماثلة، إلا أن طريقة التعاطي هي ما يخلق التميز. لو كان عالمُ اللغةِ يُفكرُ فقط في إعراب الكلماتِ وبنيتها وإملائها ، دون الاهتمامِ بما تمثله كل كلمةٍ من تصاوير عقليةٍ ودلالاتٍ رمزية، لما أمكنه بالتأكيد أن يتوصلَ إلى فهمِ صورةٍ شعريةٍ مجازية . ولهذا يبقى الكثيرونَ مجردَ خبراء في اللغةِ ، لكن القلةَ هم الذينَ يبدعونَ أو يجددون، أو حتى يتقبلونَ فكرةَ التجديد والبناء .
حتى التاريخ ، فإن على المؤرخِ ألا يتعامل مع التاريخ على أنه وقائع حدثت وكل مهمتهِ كمؤرخٍ أن يصوغها كما حدثت ، بل لابد أن يسمَ تأريخهُ بروحِ الاستنباط والتحليلِ الذي يبينُ فخامةَ ورقي عقله ، مما يجعلنا ندركُ أننا أمامَ مؤرخٍ مبدعٍ ، وليس أمام راوية . والأمرُ ذاته في شتى العلومِ والمعارف .
لو كانَ جلُّ اهتمامِ عالم الرياضياتِ بالنتائج السطحية المباشرة لمسائل الجمع والطرح والقسمة ، لما أمكنه التوصل إلى معادلاتٍ لا تحتوي على الأرقام كأحدِ عناصرها ، بل تحتوي على أفكار من الطبيعة . لذا فالعقلية الإبداعية هي التي تحولُ الكلمات إلى صور ، والأفكار إلى أرقام .
سردال كتبَ أيضاً طلبةٌ لا يفكرون
مقال سابق ذو علاقة: أنا بخيرٍ، وامتحانات.
اترك تعليقاً