اذكروا محاسن موتاكم: الحقيقة عين الحسن

في صبيحة هذا اليوم، والحداد قد أطبق بصمته المفتعل على ربوع البلاد، أرسلت لي تبكي، وتحاول – دون أن أطلب منها- إقناعي بأنه كان رجلاً عظيماً وجميلاً، فكتبت لها مُعزياً ومواسياً:

أتضامن معك كما يليق بحجم تأثرك لهذا الرحيل، وفي الأفق سماء تتعكرُ بضباب القلق، أعلمُ أن الموازنات التي خاضها كانت فارقة، وإن لم تكن كافية.

اعذروني يا أصدقائي، اعذروني يا من تحبون الراحل، أنا لستُ عاطفياً لدرجة التغاضي عن مآسي هذا البلد إكراماً للرحيل، لا أقتنع بحجةِ أنه لم يعد لديه ما يقدمه، لذلك هيا بنا نمدحه ونبالغ في تزييف محاسنه ليبدو وكأنه إصلاحيٌ متنور، عفواً الحقيقة عين الحسن كله.

لا تقولوا كان إصلاحياً، لقد كان رجلاً متواضع المعرفة، قليل الوعي، حسن النية ربما، لكن منذ متى تُدفعُ الجرائم بحسن النية؟

لا تنسوا أنه ( طال عمره ) تهيمُ في بلاده سوائبُ وأشباه بشر، حفاة العقول، قساةُ القلوب، يُسمون: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعملون كأوصياء على أخلاق الناس وسلوكهم، ويقبضون على الرجل وزوجته بتهمة الخلوة، نعم هذا صحيح، وسيقولون لك أخطاء فردية، في حين أن أحداً لم يحاول النظر فيما إذا كانت المشكلة في المنظومة نفسها.

فلا تقولوا “كان رحمه الله إصلاحياً” لا، لقد كان كبيرُ الكهنة، وكان راضياً عن الجلاد.

احملوا عاطفتكم فوق ظهوركم، ودموعكم أبعدوها كي لا تختلط بالدم الذي يسيلُ من امرأةٍ تُرجم أو تُجلدُ لممارستها الحب، بينما حاويات الخمر تدخل للأمراء والمتنفذين. نعم الأمراء والمتنفذون فوق القانون، ولا يمكن أن تطبق عليهم هذه الأحكام البربرية المسماة بالشريعة، سواء شربوا الخمر، أو مارسوا الزنا يومياً، وحدهم الضعفاء يُحاكمون بهذه القوانين الهمجية.

لترثوا ولتحزنوا، وتباكوا ولتنهمر دموعكم على رحيل من طال عمره وانتهى، لكن لا تنسوا في معرض المدائح، وتذكر محاسن الموتى، أنه ( طال عمره ) كان على رأس دولةٍ دينيةٍ قمعية لم يعد لديها عذر لئلا تصبح دولة متطورة غير أنه يحكمها نظام يعتاش من جهل الناس، وقمعهم بالدين والسجون.

البلد قوة اقتصادية عظمى، ومع ذلك لا زالت تعيش في ذيل الحضارة، تشربُ النفط، وتقبضُ على الناس بتهمة الحب أو الخلوة، وتعاني النساءُ فيها من أوضاعٍ مُزرية كأننا في عصور الجواري، وفيها يُجلد #رائف_بدوي لأنه أنشأ منتدى فكري على الانترنت، وتُسجن فتاة لأنها حاولت دخول بلدها برخصة قيادةٍ دولية أصدرتها عن استحقاق في دولة مجاورة.

لا تقولوا كان إصلاحياً، لقد كان الرجل الذي أتى عليه الدور لإكمال التحالف الوهابي بين الدين والسلطة، في هذه الدولة الثيوقراطية ( الدينية )، ورغم أن البعض سيقول أنه كان  يدفعُ في اتجاه التحرر من إرث الوهابية المتخلف، فذلك غير صحيح، نحن نتحدث هنا عن الملك، الملك الذي يأمرُ فيُطاع، لا قيمة لكلامه المنمق ونواياه الحسنة، إن لم يُرفق ذلك بقراراتٍ ملكيةٍ جذرية.

أيضاً لا تتذاكوا وتجدوا لعواطفكم الجياشة عذراً فتقولوا أنه فعل ما بوسعه للحد من الخراب، فالملك الذي تجاوز كل الأعراف والعادات ليُشكل هيئة البيعة في 2006، ويغير الطريقة التي تأسست عليها الدولةُ في اختيار من يحكمها، كان بمقدوره أيضاً أن يصل إلى أبعد من ذلك، ولم يفعل، ربما لأنه لا يدري ما الذي يجبُ فعله، أو لأنه ببساطة لا يريد.

الملكُ الذي قرر أن تدخل المرأة لمجلس الشورى ليتجملَ أمام أمريكا بحرية بضعة نساء جلسوا في قاعة المشاورة، مع أنهن لا زلن يسافرن بإذن ولي الأمر، ولا يستطعن قيادة سيارةٍ فضلاً عن التظاهر بقيادة دولة من خلال الجلوس إلى جوار أصحاب البشوت، كان بإمكانه طال عمره أن يضع المرأة ذاتها التي يدعي مناصرة حقوقها خلف عجلةِ القيادة ليتخلص النساءُ هناك من قرف وخراء السائقين وذل الاحتياج مثلاً، خطوةٌ بسيطة كهذه، تافهة كهذه، لم تحدث، لأنه طال عمره (وانتهى) لم يكن إصلاحياً، ولم يكن ديموقراطياً، ولم يكن يناصر حقوق المرأة، ولا حقوق الإنسان، كل ما في الأمر فوضى وتجملٌ أمام العالم لغض الطرفِ عن نظام حكم ينهبُ شعبه، ودولةٍ لا زالت تقطعُ الأطراف، وتجلدُ المختلفين معها فكرياً، وترجمُ النساء اللاتي يمارسن الحب.

ابكوا بعيداً، لكن أرجوكم، لا تقولوا كان رحمه الله إصلاحياً، أو ما شابه ذلك، فهذا مُضحكُ، والضحكُ ليس جيداً في مقام الموت.

قولوا قولاً صحيحاً، كان طال عمره ( وانتهى ) على رأس أكبر دولةٍ ثيوقراطية ( دينية ) تصدرُ الإرهاب للعالم، وتُدرسُ في مناهجها أفكار #داعش، وتقمع حقوق الإنسان والمرأة، وفيها يتحكمُ أصحاب اللحى بسلوك الناس وبما يجبُ أن يفعلوه وما لا يجب.

كان رحمه الله مليارديراً لدرجةِ ألا أحد يعرفُ حجم ثروته، فلا أحد يُحاسبه أو يراقبُ ذمته المالية في مملكة النفط السعودية، لأنه هو الملك.

قولوا الحقيقة، اذكروا محاسن موتاكم، لكن تذكروا أن الحقيقة عينُ الحُسن.


Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *