– إيه ده يا عمو محمد؟
– هذه انترنت يا عزيزي.
من مُحادثةٍ جَرت بيني وبينَ ابن خالتي الصغير.
أقضي يومياً ما يزيدُ عن أربعِ ساعاتٍ على انترنت. وهذا بحسبِ أسطورتي الشخصية، عملٌ أؤديهِ باحترافٍ كامل، أحصلُ مُقابله على خبرةٍ ومُتعةٍ لازمةٍ تفوقُ بالنسبةِ لي دخلاً مادياً قد أكسبه لو قضيتُ هذه الساعات في عملٍ آخر. والمتعةُ هنا ليست في التحرِّرِ من ضرورةِ الالتزامِ الإنساني، والانفتاح على اللاهدف، بل هيَ التزامٌ من نوعٍ آخرَ بشروطٍ أخرى، ويأتي هذا الالتزام غالباً جرَّاءَ فهم الإنسان لدورهِ ككائنٍ سيبري غير محدودِ القدرة، وهوَ اتساقٌ معَ لامحدودية العقل البشري في استنباطِ طرقٍ للتواصلِ وأساليبَ للظهورِ بأشكالٍ مختلفة، ليسَ أبسطها أن يكونَ الإنسانُ فكرة.
الفضاءُ التخيلي البديل عن دائرةِ الواقع الحتمي، يُلزمُ من يدخله بطقوسٍ شعائرية على قدرٍ كبيرٍ من التنظيم والفهم الأعمقِ لأولوياتِ المقام. ففي انترنت، يتلاشى كلُّ شئٍ من المشهدِ سوى صورة الإنسان التخيلية التي يبثُّها عن نفسه، ويستقبلُ الآخرونَ هذا البثَّ بطرقٍ مُختلفة، كلٌّ حسبَ قدرته على الاستقبال والانفتاح اللامحدود.
الإنسانُ للإنسانِ، والفكرةُ للفكرةِ، لا شُخوصَ ولا قواعدَ للعب سوى قاعدةٍ واحدة، الالتزامُ بعدمِ الالتزام. الانفتاحُ للانفتاح، وهي شعيرةُ انترنت الرئيسية.
***
هل هيَ الظلال؟ هل أتى اليوم الذي أصبحَ فيه للعقلِ ظلٌّ مرئي خلافَ ظلِّ الكائن الذي يحمله؟
أعني كيفَ يُمكنُ أن نصفَ ونفهمَ الكائنات الجديدة للفضاءِ التخيلي؟ إنها عبارةٌ عن ماذا؟
أحتارُ جداً عندما أحاولُ وصفَ صورتي التخيلية التي أبثها من خلالِ شاشتي. هل أصفُ حالةَ وجودي المجردة، مُتجاهلاً كوني شخصاً واقعياً يحملُ بطاقةَ هويةٍ برقمٍ قومي، وله اسمٌ يُناديه الناس به، وله مساحةٌ كبيرة من الاحترامِ والحبِّ والكرهِ لدى الآخرين؟
أم أصفُ الحالةَ التي أكونها، والتي تُمثلُ شخصيتي الأخرى على انترنت؟
عن أيهما أتحدثُ إلى أصدقائي، وهل إذا تعرَّفَ شخصٌ ما عليَّ في الواقعِ، سيتفهمُ أني لا أشابهُ نفسي حينَ أحدثه على انترنت؟ لقد حدثَ هذا كثيراً. وقالَ لي مَن التقاني أنكَ مُختلفٌ جداً حين نتحدث من خلالِ انترنت، يقولونَ أنني أتقمصُ شخصيتي التي عرفوني عليها لأولِ وهلةٍ، دونَ أن أتنازلَ عنها فيما بعدَ لقائنا الواقعي. شخصيتي الافتراضية الحقيقية تلك، تُراني أفضلها على أنايَ التي رافقتني منذ صغري وحتى حالة الانفصام المعاصر التي أصابتني؟
***
الانترنت، هوَ الثورةُ التي أحدثها الإنسان لكي يجدَ طريقةً للتخلصِ من نفسهِ حينَ لا يُريدها. ومع ذلك حينَ يعودُ لواقعه، فإنه يُبقي شيئاً منه هناكَ، يتركه، ويعودُ ليُنميهِ بعدَ ذلكَ شيئاً فشيئاً، ويحفظُ إحداثيات الوصول كي يعودَ وقتما شاءَ لمواصلةِ الإفضاءِ إلى الفضاء.
وأظنُّ أن العالمَ لا يألوا جُهداً في سبيلِ بلوغِ الفكرةِ القصوى لحياةٍ لا شخوصَ فيها، بل بياناتٌ وصورٌ وكلمات. أليست هذه هي الحداثةُ بأقربِ أشكالها حتى الآن؟
الهيئةُ الإنسانية عبرَ انترنت تكونُ أكثر اكتمالاً، أو أكثر قُرباً من الكمال. فأنتَ لن تُمرر سوى ما تجده أقربُ لفكرتكَ عن الكمال. ولن تُمرر سوى الشئ المناسب الذي تراه دائماً.
وهنا يأتي دورُ الآخرينَ في الاعتراض، وتمريرِ رؤاهم الأخرى، والتي قد تتعارضُ، أو تتناص، أو تتحارب مع رؤياك. هنا يلعبُ الكمالُ لُعبته ويبدأ في التكون.
من خلالِ الوسطِ اللانهائي من الأفكار التي يعتبرها أصحابها كاملةً، تتكونُ الفكرةُ الأقرب.
انترنت، المصطلحُ المتعالي على الاصطلاح، الذي لا يخضعُ لتذكيرٍ ولا تأنيث، ولا يحدُّه تعريف.
انترنت، هيَ التآمرُ من أجلِ بناءِ عالمٍ يُمكنُ فيه التواجدُ في اللامَكان. إنها جبروتُ العقليةِ المعاصرة، ورغبتها في فرضِ نفسها بطريقةٍ لا تعرفُ للانتشارِ حُدوداً.
انترنت، الملجأ الديموقراطي الأوحدُ للفِكرةِ. الفضاءُ الحقيقي الأولُ في تاريخِ امتدادِ العقلِ البشري. التكاملُ الإنساني، التعاون، الوصولُ إلى مُستقَرٍّ يعيشُ عليهِ الجميع في توسعٍ وثراءٍ دائم. إنه مَهبطُ التاريخِ ليستريحَ قليلاً، وطريقُ إقلاعهِ من جديد.
انترنت؟ أنا أحدثكم من انترنت !
اترك تعليقاً