الضحايا، بإهمالٍ ما، هم نحنُ الغارقون

من المؤسفِ ما يحدثُ حقاً. سنةٌ جديدة، وهناك أكثر من كارثة، على أكثرِ من وجه. أصبحَ الإنسانُ حائراً بأيِّ شئٍ يتأثر. ولأيِّ سببٍ يحزن. ما بينَ المصائبِ الإسلامية والقومية والإنسانية والشخصية، توزعت خفقات القلب المكلوم.

الأنباء متضاربة، ولا أحدَ يقبلُ بتحملِ المسؤولية. الحكومة المصرية تدفعُ عنها الاتهامات بحجة أن السفينة كانت ترفع علم بنما، والقانون المصري لا يسري على أي سفينةٍ ترفعُ علماً أجنبياً.

شركة البلاغة للشحن، الشركة المالكة للسفينة، تدفعُ عنها الاتهامات بأن السببَ هو البحر، وأن الأحوال الجوية كانت سيئة، وتقول بكل براءة – أو بكل سذاجة – أن الرحلات السابقة التي أجرتها العبَّارة السلام 98 كانت ناجحة. وتحسبُ أن هذا يُعدُّ دفعاً للإهمالِ، ولاغياً للتقصير والاستهتار الحاصل.
للأسف، فإن ما سيحدث، هو استكمال مسيرة التحقيق الرسمية – والزائفة غالباً – وسيتم رمي الفتات من التعويضات لأهالي الضحايا، أما الشركة المالكة فستثبت بأقذر أسلوب ألا دخلَ لها في الأمر، وأنها خسرت خسائر فادحة. ويظهر مالكوها وهم يُبدون بعض التأسف لأرواح الضحايا، ويعتذرون عن سوء الحظ، ويتمتمون ببضعة كلمات تمدح الإيمان وتُقرر القضاء والقدر. ثم ينجون بفعلتهم، مع بضعة ملايين من التعويضات التي لا يستحقون فلساً واحداً منها. هذا هو الأسلوب المُتبع هنا، حيثُ لا شرفَ ولا ضمير.

بالنسبةِ للحكومة، فقد كان واجباً على الرئيس مُبارك أن يطير بسرعة إلى الغردقة، وتُلتقط له بعض الصور بجانب الضحايا المختارين سابقاً، لتكتب الصحافة عن الأب الحنون مُبارك، أولُ المداوين. كما يجب أن تُقام بعض العروض المسرحية يُندد فيها الوزراء، ويجتمع أعضاء مجلس الشعب، ليقرروا في النهايةِ أن هذا الإهمال لا يُمكن السكوت عليه، ويجب تغيير الأوضاع لتجنب تكرار ما حصل.

لقد صدقَ من قال: هذه حكومةٌ قذرة، حرقَ الله قلوبهم، وأفجعهم حتى لا يعودون يعرفون طعماً للأمانِ أو الراحة.

أما عن الضحايا، فهم شهداءُ الله في بحره. وذويهم وارثوا الحزنِ الأزلي، والحسرةِ السائرةِ بهم حتى مسافةٍ بعيدةٍ من التذكر.

هم صوتُ المأساةِ الذي يتكررُ في كلِّ كارثةٍ إنسانيةٍ تصرخُ من قلبِ الإهمال. عابروا الأعماق. بسرعةِ الغرقِ يعبرون. بسكونِ الاستسلامِ لقدرٍ محتوم. الأمواتُ غرقاً، كقصةٍ بنهايةٍ حزينة. كقصيدةٍ تائهةٍ لا تهتدي لمعالمِ التفجع. كرثاءٍ منقوص. لا قبرَ لهم غيرَ هذا الواسعِ الأزرق. لحومهم ذائبةٌ في الملحِ، أو مهضومةٌ في بطنِ القرشِ، أو سارحةٌ مع التيار الجنوبي.

لهم تلكَ الرحمةُ، رحمةُ الشهيد. ومميزات الشهيد. يدخلونَ الآخرةَ كالفاتحين. يُحاسبهم اللهُ برفقٍ وتفهم. لقد عانيتم كثيراً يا عبادي. لقد غرقتم في بحري.
لهم تلكَ الرائحة – رغمَ الماءِ والملحِ – رائحةُ الشهيد. لهم ما يُتيحُ لهم الغرق. موتٌ صامت بالاختناق. غصة بالماءِ دونَ ارتواء. نظرة شفافة من أمٍ لابنها، هيَ الوداعُ ووعدُ اللقاء. لهم كل شئٍ ليسَ لنا، ولنا فقط أن نكتبَ عنهم بكلِّ احترام، وبكلِّ خشوع. لقد اختيروا هذه المرةَ نيابةً عنا جميعاً، ونحن سننتظر ونشهدُ المزيدَ من الحياة.

فانتظروا يا أيها المنتظرون.


Comments

3 ردود على “الضحايا، بإهمالٍ ما، هم نحنُ الغارقون”

  1. حسبي الله و نعم الوكيل

  2. والله ملكوني البحر
    وانا حبسطكوا

    انتو الغلطانين …كنتوا انتخبوني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *