وادي نَمَارْ – انْحِدَارٌ أوَّل

يجتاحني صخرٌ سريٌ يناوشني بالذكرى. منذ يومياتي في وادي نمار بالسعودية، وأنا لا أفتأُ أستشعرُ إحساسَ العلو في داخلي، والحنينَ المترقب ليومِ عودة.منذ كان الوقوف على قممِ الوادي في كلتا حافتيه، هو متعةٌ سريةٌ نقصدها بوحي جموحنا، بكل عنادِ أعوامنا الستة عشر التي تتحدىَ مخاطرَ ظاهرةً لنا، ونتيقنها جيداً. هذا الاندفاع الجَمُوح لم أجربه في حياتي إلا قليلاً، وأنا أفتقده الآنَ حقاً.

أفتقدُ هذه الأيام.

كان بالوادي أكثر من بحيرةٍ ملوثةٍ بالزيت الخام الذي كان يبدو ناشعاً في أحدِ جوانب الجبل المقابل. اثنتانِ من البحيرات لم تكونا صالحتانِ للسباحةِ، أو مشجعتان، فالأشجار والحشائش كانت تنبت على جوانبهما بطريقةٍ عشوائية. ولم يكن لهما شاطئٌ مناسب، بل كانت الانحدارات نحو عمقهما تتفاوتُ ما بين الضحالةِ والانحدار الشديد، وكانت الصخور متفاوتة الحجم تملأ المكان، و الجمالُ المخيمُ على مشهدِ الوادي الغارق في السكون يتألقُ ليلاً معَ نسماتِ الهواء .

الافتتانُ الأولي بجمالِ الوادي بدأ عندما هطلت الثلوج في تلك السنة في أواخر التسعينات، وامتلأ الوادي بشلالاتٍ من المياه راحت تجري وتنساب من جميع الأماكن، حيث أن الانزلاق الطبيعي لسطح مدينة الرياض يتجه نحو الوديان العميقة التي تمتد إلى خارج الرياض، وحيث أن وادي نمار هو أحد هذه الوديان، ويتفرع من الوادي الأكبر وادي حنيفة، فقد كان المنظر بديعاً وتلكَ السيول تنهمر كالشلالاتِ من على قممِ الجبالِ، وحواف الوادي.

بدأتُ تجربة نزول الوادي لأولِ مرةٍ في عُمر الخامسة عشر. مقاوماً لعدةِ دوافعَ داخلية تحدثني عن الأمان الشخصي، والحفاظ على العُمر. لقد كانت مخاطرةً مثيرةً للرهبة، حيث أن انزلاقاً واحداً من على صخرةٍ أثناء النزول كفيلٌ بإرسالي مباشرة إلى القاع، وتهشيم عظامي إلى أشلاءٍ صغيرة دونَ أن يدري أحدٌ أو يسمع دويَّ تحطم تلك العظام.

كانت تجربةً سريةً، ومثيرةً، وخطيرة، إلا أنها نجحت. وسرعان ما وجدتُ نفسي محتضناً في وادٍ ضخمٍ لا أثرَ فيه لإنسان، شعرتُ بالإثارةِ، والمتاهةِ، والخوف. نظرتُ حولي فإذا حافتانِ عاليتانِ تحاصرانِ آفاق النظر. لم يكن هناك مجال للتخيلِ لأنني كنتُ في قلب الخيال. كنتُ أستنفذُ لحظاتٍ نادرةٍ وصلتُ فيها إلى نقطةِ تماس بين الحقيقةِ والخيال.

بمجردِ أن استوعبتُ ما حولي، فكرتُ بالطريقةِ التي سأعودُ بها من حيث أتيت. كانت فكرة التسلق إلى الخارج تبدو كوهمٍ بعيدٍ بالنظرِ إلى القمة العالية التي قضيتُ نصفَ ساعةٍ وأنا أنحدرُ منها إلى قاع الوادي.
فجأةً خطر ببالي فكرة المشي مع اتجاه الطريق الذي لاأعرف أين سيقودني. أثناء المشي خطرت لي عدة خواطر لم يكن أكثرها غرابة تخيل حيواناتٍ مفترسة، فلم أكن ساعتها مطلعا بما يكفي لأعرف أن الأسود والنمور لا تستوطن البيئات الصحراوية. راجعت في ذهني كل ما أعرفه عن الأفاعي والعقارب، ثم فكرت في التماسيح بمجرد إشرافي على البحيرة الأولى التي تظهر من على الطريق الدائري كمنظرٍ بديعٍ لبحيرةٍ وادعة. اكتشفتُ أنها ملئيةً بالأحراشِ والحشائش المائية والانحداراتِ الصخرية إلى أعماقٍ مجهولة. وصلتُ أخيراً لتلكَ الشجرةِ التي سأتذكرها فيما بعد على أنها المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالاطمئنان إلى الطبيعة. لقد تآلفت معها روحي بمجرد الوصول إليها. عندما استندتُ إلى فرعها، واتجه نظري مُجدداً إلى حافة الوادي من ناحيةِ الطريق، وجدتُ أن الصخور في الطريق إلى القمة مناسبة جداً لتسلقها دون الخوف من الانزلاق. لقد كانت أشبه بدرجٍ طبيعي لكنه مصممٌ بطريقةٍ عشوائية.

بلغني مؤخراً من الأصدقاء الذين لا زالوا هناك، أن الإضافات العمرانية وصلت إلى وادي نمار، وأن الاسفلت البغيض احتل مساحةً هائلةً من أرض هذا الوادي الجميل في محاولةٍ لمد طريقٍ من الدائري الجنوبي إلى حي الشفاء في الجهةِ الأخرى. لقد اغتصبوا طبيعته الهادئة، وأرضه الترابية الطاهرة.

قرأتُ أيضاً أن حضارة الأسمنت قررت بناء جسرٍ هناك، سيقوم بذات المهمةِ التي بدأها الاسفلت. لستُ حزيناً، ولا غاضباً، لقد كانت لنا حياتنا السرية التي لم أحكِ منها شيئاً بعد.حياتنا التي ارتبطت بها سنوات وجودنا في الرياض. حياةَ مقاتلي الووشو، وفتيان الأدغال، وفريق الشلوط الأحمر. نحن الأصدقاء الذين تعاهدنا على إحياء خطبة الجمعة في هذا الوادي، وكان المنبر صخرة، والصوتُ صدى، والأماني معلقةٌ بينَ ضفتينِ لا يلتقيانِ إلا عبر أصوات صراخنا.

ها أنا أفكرُ فيما إذا كان يجبُ عليَّ أن أعترضَ على اغتيالِ هذا الوادي، وأسافرَ إلى الرياض حاملاً معي غضباً لن ينتهي إلا بجسدي أمام مجرفةٍ أو بلدوزر التكسير، ولافتةٍ على صدري تقول لا تقتلوا وادي نمار. في أي دارٍ للمجانين سيحتجزونني؟
أعرفُ عبثيةَ ما أقوله، ولكن يبدو أن أنانية الاستفراد ستجعل من تقدم المدنيةِ العمرانية في الرياض مأساةً لعددٍ من المهووسين. أتمنى فقط أن يُحسنوا التصرف في طبيعة الوادي الداخلية، ما دام الجسر سيمر من فوقه واصلاً لأولِ مرةٍ بين ضفتينِ لم يلتقيا إلا عبرَ الصوت. صوتنا في تلك الأيام.


Comments

ردان على “وادي نَمَارْ – انْحِدَارٌ أوَّل”

  1. كأني وأنا أقرأ هذه الكلمات أتصفح كتابا صيغت أوراقه من تلافيف مخي وأركان عقلي
    بل كأني أغرف من محيط ذكرياتي
    أيها الإنسان قف ولا تتابع انحدارك في الوادي فله طقوس وسنن تقتصر على من أدى فرائضه

  2. الصورة الرمزية لـ سيف الحق فيصل طبنجة
    سيف الحق فيصل طبنجة

    هذا اسمي كاملا يامحمد ويحك يارجل كل ذلك تخفيه

اترك رداً على سيف الحق فيصل طبنجة إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *