الهاوية

  • تواصل
  • عنيعن حارس الهاوية
  • خدماتي

  • أنماطٌ للتَّنسِيِقِ، وأنماطٌ للوُصُول

    سَادرٌ في فوضى القوالب. ما الذي أفعله أيها العالم. سأخبركم بالمشكلةِ وما فعلته من أجلِ حلها.

    في بدايةِ تركيب ووردبرس على موقعي، كانَ الأمرُ على ما يُرام. لكن بمجردِ استيراد التدوينات من مدونتي الأولى على بلوجر ، بدأت تنسيقات الصفحة تظهر بشكلٍ مختلف. وكانت القائمة الجانبية لا تظهر في أعلى الصفحة كما هو الطبيعي، بل تختفي للأسفل، والكتابةُ تتجاوزُ الحدود اليُمنى للإطار المُحدد، وتخرج عن النسق. أدركتُ فطرياً أن هذا بسبِ الأكواد التي كنت أستعملها في الكتابة على بلوجر، فهي لا تناسب الووردبرس. بدأتُ حملةَ تحريرٍ لجميعِ التدوينات. في البداية لم أستطع ذلك بسبب المحرر المتطور، قمتُ بإلغائه من إعدادات الحساب، وبدأتُ بنسخ النصوص كلها إلى الوورد، ثم إعادة وضعها في أماكنها دونَ أكوادٍ من الفرونت بيج، أو Nvu . بعدَ أن انتهيت تماماً، كانت المدونة تظهر بشكلٍ صحيحٍ ومتناسق في متصفح فيرفوكس، بينما في إكسبلورر تعم الفوضى أنحاء الصفحة. تلقيتُ اقتراحاتٍ منها تغيير القالب. فكرتُ أن أضعَ لافتةً مكتوب عليها: لتصفحٍ أفضل لهذه الصفحة استعمل فيرفوكس، لكنَّ آشور قال لي أن هذا إملاءٌ على القارئِ، وديكتاتورية بغيضة. فتراجعت فوراً عن الفكرة 🙂 . لم يتبقَ إذن إلا ممارسة المزيد من التجارب، وحتمية مواجهة صفحات التنسيق بأكوادها الكثيرة وأوامرها المختلفة. وهذا أمرٌ ليسَ بالسهل، فسابقاً قالَ لي من يطوي المتصل في إجابته على إحدى رسائلي: أنَّ تعديلَ مثلَ هذه الأخطاء يحتاجُ إلى تحاربٍ ونضالٍ معَ صفحاتِ الأنماطِ المتعددة CSS . كما أن سِوار – وهوَ أحدُ مُطوري الووردبرس- تواجهه مشاكل في القوالب، لكنه طبعأً يتغلبُ عليها بمعرفتهِ التي لا أمتلكها الآن.

    بدأتُ بالقراءةِ السريعة لبعض ملفات القالب. طبعأً لا يُمكن للإنسانِ العادي أن يفهمَ شيئاً من عشرات الأوامر والسطور التي تؤمنُ لموقعه الوجود والعمل الجيد، ما لم يكن مُلما بالحدِّ الأدنى من مفاتيحِ البرمجةِ في هذه اللغات المستخدمة لكتابة الأكواد. لكنَّ بحثي في المقامِ الأول كان يتركزُ على أيِّ توضيحٍ أو كلماتٍ أفهمُ معناها بشكلٍ مُباشر. وقد حصلَ ذلك.

    ففي أكواد CSS التي تُستخدم في هذا القالب، وجدتُ أن أحدَ الأكواد قد ابتدأت بهذا التوضيح:

    /* Begin Lists

    Special stylized non-IE bullets
    Do not work in Internet Explorer, which merely default to normal bullets. */

    إذن هناك تقنية معينة تستخدمها CSS لتنسيق القوائم، وهذه الميزة لا تعمل على إكسبلورر. فكرتُ ، وقلتُ لنفسي: لنلغِ هذه الميزة. ولنرَ ماذا ينتج عن ذلك.
    أخذتُ نسخةً احتياطية من الملف، ثم بدأتُ بالحذفِ المنظم لأكوادٍ معينة، وأذهب لأرى النتيجة. طبعأً كنتُ أضعُ في بالي نصيحةَ سردال بعدمِ الاقتراب من أيِّ أوامر php ما لم يكن المستخدم يعرفُ ما يفعله جيداً. وحيثُ أنني لا أعرفُ ما أفعله جيداً، فالأحرى بي ألا أفكر أصلاً في العبث مع أقواس وأوامر php . حتى لو تهيأ لي أنني أفهم حكمةَ وجودها.

    بعدَ عدةِ مناورات، قادني البحث إلى اكتشافٍ كنت رغبتُ بالاهتداء إليه، وكنتُ أنوي سؤالَ صاحب الأشجار أو صاحب طي المتصل عن كيفية تركيب خط Traditional Arabic على المدونة، بحيث تكون الكتابة الافتراضية بهذا الخط. لأنني أولاً أحب هذا الخط، وأستخدمه دائماً في جميعِ مراسلاتي، كما أنني لم أشعر بمناسبةِ خط Tahoma الافتراضي لمدونةٍ اسمها الهاوية.
    لقد لاحظت في تنسيقات CSS الرئيسية أنها تضم جميع المواصفات الافتراضية للصفحة، من حجمِ الخطِّ، ونوعه، وحدودِ الصفحةِ وما إلى ذلك من تنسيقات. عندها قمت باستبدال كل موضعٍ وضع فيه Tahoma كخط افتراضي، إلى Traditional Arabic . ثم رأيت النتائج، وكنتُ سعيداً بذلك. لم يكن صعباً بعد ذلك فهم كيفية عمل الأوامر، ووظيفة كل سطر، وهذا جعلني أقضي ساعةً في تجربةِ التبديل والتعديل في هذه الأوامر.

    بقيَ الآن مسألة اختلاف ظهور الصفحة بين فيرفوكس وإكسبلورر. أثناء تعديلي لتنسيقات CSS اكتشفتُ أن أي خطا بسيط، ولو في حرفٍ من حروف الأوامر قد يُسبب مثل هذا الخطأ. وكنتُ بعدَ تركيبي لووردبرس قد وضعتُ عدةَ صورٍ ولافتاتٍ في القائمةِ الجانبية. قمت بإزالةِ كل شئٍ كنت قد أضفته مثلَ لافتة التضامن مع علاء والمعتقلين في مصر، وجربت الصفحة في إكسبلورر ، وكانت المفاجأة أنها تعمل. إذن قد اهتديت لسببِ الخلل.

    بدأتُ تِباعاً بإضافةِ الأكواد لهذه اللافتات مرة أخرى، وجربت، فإذا بخطأ الظهور قد عاد. قمتُ بعدةِ تجارب أخرى، مثل تغيير الكود الخاص ، أو إزالة النص التوضيحي الذي يظهر عند وضع مؤشر الماوس على اللافتة، وكل هذا لم يُفلح.
    اكتشفتُ في النهاية أن السبب في كل هذا هو التكرار الذي وضعته لكود ابتداء التقسيم. وأنه لا يجب وضع هذا الكود، بل وضع كود اللافتات مباشرة.

    حيث أنني ابتدأت اللافتات في تقسيماتٍ جديدة، وضعتُ لها أسماءً على غرارِ ما لا حظته من طريقة عمل الأوامر.
    بمجرد أن أزلت هذه الأوامر، إذا بالخطأ يذهب. وأصبحت الصفحة تظهر بشكلٍ سليم على كلا المتصفحين.

    هذا ما جرى خلالَ الأيامِ القليلةِ الماضية، و الخطة القادمة هي في وضع صورة جديدة للهيدر غير الصورة الافتراضية، وبهذه المناسبة يجبُ أن أشير إلى أنني أحسدُ منصور على نجاحهِ في ذلك أولاً، وثانياً على جمالِ الصورةِ التي وضعها. وأنوي سؤاله عن الطريقةِ التي اتبعها لتغيير الهيدر الخاص بمدونته.

    27 مايو، 2006

  • غونتبرغ وحُلمُ الكِتَابِ العَرَبِي

    عن مشروع غونتبرغ، والحلمُ البعيد لانتفاضةِ الكتاب العربي.

    من أجملِ ما يُمكنُ أن يتمتعَ به الإنسان، حقُّ الحصولِ على المعرفة. إنَّ لذلكَ مُتعةٌ لا تعدلها متعةٌ أخرى، بالنسبةِ لي على الأقل. إنَّ أولئكَ الأشخاص الذينَ يعملونَ على مشاريعَ لنشرِ المعرفةِ، وتسهيلِ الحصولِ عليها، لَهُم أشخاصٌ جديرونَ بكلِّ احترامٍ وتقدير.

    اليوم قادتني بعضُ الروابطِ إلى مشروع غونتبرغ للكتاب، والذي بدأه مايكل هارت عامَ 1971. كنتُ قرأتُ بعضَ المقتطفات فيما سبق عن هذا المشروع، إلا أنَّ كونه بالإنجليزية لم يُثر اهتماماً كبيراً لديَّ وقتها، ربما بدافع السخط، أو ربما طبيعتي في ذلك الوقت.

    أما اليوم، فقد تصفحتُ الموقعَ بنوعٍ من الرضا المُحببِ لي، أحبُّ أن أكونَ في هذه الحالةِ من الشعور الإنساني. أشعرُ بهذا الشعور عندَ كلِّ مرةٍ أقفُ فيها على معنىً لطيف، أو بادرةٍ طيبة، أو قدرةٍ باهرةٍ تثيرُ الإعجاب. آخر مرة حدث ذلك عندما شاهدتُ برنامج مشاريع عملاقة على قناة الجزيرة. كانَ الأمرُ مُذهلاً وباعثاً على العمل. ظللتُ بخيرٍ لمدةِ ثلاثةِ أيام.

    خلال بحثي في صفحات الموقع، وجدتُ طُرقاً لدعمِ المشروع، من بينها وضعُ لافتةٍ تُشيرُ إليه في موقعكَ الشخصي. لذا فقد دفعني امتناني العميق للاختيار من بينِ عدة لافتات كانت مُتاحة، بأكوادها. واخترتُ هذه اللافتة المتحركة:

    لافتة تُشيد بمشروع غونتبرغ لنشر وتوزيع الكتاب

    سروري بالمشروع، لم يُنغصه سوى عودتي لواقعِ الكتابِ العربي. لكنَ الأملَ في إنشاءِ مشروعٍ مماثل، أو حتى النقل والترجمة عن هذا المشروع، أملٌ كبير. ويستحقُّ أن يبذلَ الإنسانُ جهداً في سبيلِ تحقيقه. ربما يكونُ موقعُ الوراق هوَ أولُ محاولةٍ عربيةٍ جادة لنشرِ الكتاب العربي إلكترونياً، وتوفيره دونَ مقابلٍ تقريباً. إلا أن الاهتمامَ بالتراثِ لا يجذبُ سوى الباحثينَ والقارئينَ في مجالاتٍ مُحددة، كما أن إمكانية الحصول على نسخٍ من الكتب غير مُتاح، وهذا لا يخدمُ قضية انتشار الكتاب.

    ربما يكونُ الأمر راجع لأزمةِ النشرِ في الوطنِ العربي، فاتحادُ الناشرينَ العرب لا يُقدمُ فعلياً أية مجهودات لدعم انتشار الكتاب العربي، ولا يسعى لعقدِ الاتفاقات والاجتماعات. لو كانَ اتحاداً سياسياً لوجدته يُسارعُ إلى اجتماعٍ كلَّ يومٍ، من أجلِ قضايا لا تُحلُّ في النهاية.

    الطمع والرغبة في الربح هما أهم باعثينِ لكي يكونَ الإنسانُ ناشراً عربياً. ولا أدري لماذا اختفى الناشرونَ الحريصونَ على نشرِ الكتابِ بغضِّ النظرِ عن الاستفادةِ المادية من ورائه. أين اختفى أولئكَ القانعونَ من النشرِ بشرفِ النشرِ؟ وأينَ اختفى أولئكَ المخلصونَ للكتابِ؟ ولماذا لا تُسارعُ الحكومات العربية إلى تبني قضايا مهمة كنشرِ المعرفةِ بينَ شعوبها، أم أنَّ جُلُّ ما يستطيعـُه كفاحُـهم من أجلِ أوطانهم أن يرفعوا الجمارك على الورق الخام المستخدم في الطباعة، أو تلك الكتب الأخرى المطبوعة في الخارج، ليوفروا أسباباً مناسبةً للناشرينَ من أجلِ استنزاف جيب القارئ العربي.

    الحديثُ ذو شجون، ويجلبُ المزاجَ السئ. لذا لنعد إلى مشروع غونتبرغ.

    من مميزات المشروع أن الكتبَ المطروحةَ فيه تُعتبرُ حقاً عاماً للجميع، أي يُمكنُ نشرها أو إعادةُ استغلالها بأيِّ طريقةٍ كانت، ما عدا بعض الكتب التي اقتصرَ مؤلفوها على منحِ الرخصةِ للمشروع فحسب.

    يُمكنُ استغلال المشروع في عدةِ أمور، منها ما هوَ بحثي، ومنها ثقافي ومعرفي. ولمن يريدُ قراءة المزيد عن هذا المشروع يُمكنه زيارة الموقع، أو قراءة ما كتبه سردال عن ذاتِ الموضوع.

    24 مايو، 2006

  • وادي نَمَارْ – انْحِدَارٌ أوَّل

    يجتاحني صخرٌ سريٌ يناوشني بالذكرى. منذ يومياتي في وادي نمار بالسعودية، وأنا لا أفتأُ أستشعرُ إحساسَ العلو في داخلي، والحنينَ المترقب ليومِ عودة.منذ كان الوقوف على قممِ الوادي في كلتا حافتيه، هو متعةٌ سريةٌ نقصدها بوحي جموحنا، بكل عنادِ أعوامنا الستة عشر التي تتحدىَ مخاطرَ ظاهرةً لنا، ونتيقنها جيداً. هذا الاندفاع الجَمُوح لم أجربه في حياتي إلا قليلاً، وأنا أفتقده الآنَ حقاً.

    أفتقدُ هذه الأيام.

    كان بالوادي أكثر من بحيرةٍ ملوثةٍ بالزيت الخام الذي كان يبدو ناشعاً في أحدِ جوانب الجبل المقابل. اثنتانِ من البحيرات لم تكونا صالحتانِ للسباحةِ، أو مشجعتان، فالأشجار والحشائش كانت تنبت على جوانبهما بطريقةٍ عشوائية. ولم يكن لهما شاطئٌ مناسب، بل كانت الانحدارات نحو عمقهما تتفاوتُ ما بين الضحالةِ والانحدار الشديد، وكانت الصخور متفاوتة الحجم تملأ المكان، و الجمالُ المخيمُ على مشهدِ الوادي الغارق في السكون يتألقُ ليلاً معَ نسماتِ الهواء .

    الافتتانُ الأولي بجمالِ الوادي بدأ عندما هطلت الثلوج في تلك السنة في أواخر التسعينات، وامتلأ الوادي بشلالاتٍ من المياه راحت تجري وتنساب من جميع الأماكن، حيث أن الانزلاق الطبيعي لسطح مدينة الرياض يتجه نحو الوديان العميقة التي تمتد إلى خارج الرياض، وحيث أن وادي نمار هو أحد هذه الوديان، ويتفرع من الوادي الأكبر وادي حنيفة، فقد كان المنظر بديعاً وتلكَ السيول تنهمر كالشلالاتِ من على قممِ الجبالِ، وحواف الوادي.

    بدأتُ تجربة نزول الوادي لأولِ مرةٍ في عُمر الخامسة عشر. مقاوماً لعدةِ دوافعَ داخلية تحدثني عن الأمان الشخصي، والحفاظ على العُمر. لقد كانت مخاطرةً مثيرةً للرهبة، حيث أن انزلاقاً واحداً من على صخرةٍ أثناء النزول كفيلٌ بإرسالي مباشرة إلى القاع، وتهشيم عظامي إلى أشلاءٍ صغيرة دونَ أن يدري أحدٌ أو يسمع دويَّ تحطم تلك العظام.

    كانت تجربةً سريةً، ومثيرةً، وخطيرة، إلا أنها نجحت. وسرعان ما وجدتُ نفسي محتضناً في وادٍ ضخمٍ لا أثرَ فيه لإنسان، شعرتُ بالإثارةِ، والمتاهةِ، والخوف. نظرتُ حولي فإذا حافتانِ عاليتانِ تحاصرانِ آفاق النظر. لم يكن هناك مجال للتخيلِ لأنني كنتُ في قلب الخيال. كنتُ أستنفذُ لحظاتٍ نادرةٍ وصلتُ فيها إلى نقطةِ تماس بين الحقيقةِ والخيال.

    بمجردِ أن استوعبتُ ما حولي، فكرتُ بالطريقةِ التي سأعودُ بها من حيث أتيت. كانت فكرة التسلق إلى الخارج تبدو كوهمٍ بعيدٍ بالنظرِ إلى القمة العالية التي قضيتُ نصفَ ساعةٍ وأنا أنحدرُ منها إلى قاع الوادي.
    فجأةً خطر ببالي فكرة المشي مع اتجاه الطريق الذي لاأعرف أين سيقودني. أثناء المشي خطرت لي عدة خواطر لم يكن أكثرها غرابة تخيل حيواناتٍ مفترسة، فلم أكن ساعتها مطلعا بما يكفي لأعرف أن الأسود والنمور لا تستوطن البيئات الصحراوية. راجعت في ذهني كل ما أعرفه عن الأفاعي والعقارب، ثم فكرت في التماسيح بمجرد إشرافي على البحيرة الأولى التي تظهر من على الطريق الدائري كمنظرٍ بديعٍ لبحيرةٍ وادعة. اكتشفتُ أنها ملئيةً بالأحراشِ والحشائش المائية والانحداراتِ الصخرية إلى أعماقٍ مجهولة. وصلتُ أخيراً لتلكَ الشجرةِ التي سأتذكرها فيما بعد على أنها المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالاطمئنان إلى الطبيعة. لقد تآلفت معها روحي بمجرد الوصول إليها. عندما استندتُ إلى فرعها، واتجه نظري مُجدداً إلى حافة الوادي من ناحيةِ الطريق، وجدتُ أن الصخور في الطريق إلى القمة مناسبة جداً لتسلقها دون الخوف من الانزلاق. لقد كانت أشبه بدرجٍ طبيعي لكنه مصممٌ بطريقةٍ عشوائية.

    بلغني مؤخراً من الأصدقاء الذين لا زالوا هناك، أن الإضافات العمرانية وصلت إلى وادي نمار، وأن الاسفلت البغيض احتل مساحةً هائلةً من أرض هذا الوادي الجميل في محاولةٍ لمد طريقٍ من الدائري الجنوبي إلى حي الشفاء في الجهةِ الأخرى. لقد اغتصبوا طبيعته الهادئة، وأرضه الترابية الطاهرة.

    قرأتُ أيضاً أن حضارة الأسمنت قررت بناء جسرٍ هناك، سيقوم بذات المهمةِ التي بدأها الاسفلت. لستُ حزيناً، ولا غاضباً، لقد كانت لنا حياتنا السرية التي لم أحكِ منها شيئاً بعد.حياتنا التي ارتبطت بها سنوات وجودنا في الرياض. حياةَ مقاتلي الووشو، وفتيان الأدغال، وفريق الشلوط الأحمر. نحن الأصدقاء الذين تعاهدنا على إحياء خطبة الجمعة في هذا الوادي، وكان المنبر صخرة، والصوتُ صدى، والأماني معلقةٌ بينَ ضفتينِ لا يلتقيانِ إلا عبر أصوات صراخنا.

    ها أنا أفكرُ فيما إذا كان يجبُ عليَّ أن أعترضَ على اغتيالِ هذا الوادي، وأسافرَ إلى الرياض حاملاً معي غضباً لن ينتهي إلا بجسدي أمام مجرفةٍ أو بلدوزر التكسير، ولافتةٍ على صدري تقول لا تقتلوا وادي نمار. في أي دارٍ للمجانين سيحتجزونني؟
    أعرفُ عبثيةَ ما أقوله، ولكن يبدو أن أنانية الاستفراد ستجعل من تقدم المدنيةِ العمرانية في الرياض مأساةً لعددٍ من المهووسين. أتمنى فقط أن يُحسنوا التصرف في طبيعة الوادي الداخلية، ما دام الجسر سيمر من فوقه واصلاً لأولِ مرةٍ بين ضفتينِ لم يلتقيا إلا عبرَ الصوت. صوتنا في تلك الأيام.

    21 مايو، 2006

  • الدَبَابِير والشَّرف – رسَالةٌ عَنِ الخَسَارة

    إهداءٌ أول : إليكِ في عتمةِ الحلم. في تأوهِ الغرفةِ ليلاً. في كلِّ مهربٍ تلوذينَ به كي تنعتقي قليلاً.

    إهداءٌ ضائع : إلى القسوة . تلك الصفة القابيليةُ المتأصلة في صنفٍ من البشر، لا يُشبعونَ نهمها العاهر إلا على الصنفِ الآخر.

    إهداءٌ سابع: إلى ماركيز، الذي ألهمني الحقيقة التالية: ليسَ هناك في الحياةِ مثلٌ أعلى جديرٌ بالاحتقارِ والازدراء، من قياداتِ المباحث ورجالات أمن الدولة والعسكريين المتأصلين، الذين يوشكُ أحدهم أن يتحولَ إلى طاغيةٍ دونَ علمٍ منه.

    إهداءٌ ليسَ أخيراً : إلى أشباهي وأشباهكِ .
    —

    متأخراً عن الميعاد المتوقع للكتابة، ها أنا أكتبُ. دونما كثيرِ شجن، ولا استعدادٍ أدبيٍ أو غير أدبي. لا مراجعَ، لا أفكارَ مُحددة، أشعرُ بصفاءٍ كئيبٍ وفارغ، أشعرُ بأنه سيكون أفضلَ لو لم أكن واعياً بما يحدث.

    متأخراً عن صحوي بساعتين. الساعةُ الآن التاسعة صباحاً. غرفتي لم يدخل إليها ضوء الشمس بعد، أظنني لن أسمح له اليومَ ليفضَّ بكارةَ العتمة المتجددةِ في حجرتي. أحتاجُ أن أبقى في الظلام، فقرصُ المنومِ الذي أخذته بالأمس كان أثره قوياً، ربما لأني لم أتناول أي طعامٍ منذ الثانية ظهراً ليوم أمس. إنها حفلةُ الميلاتونين في جسدي هذا اليوم. سأكتفي بأكواب الشاي والحليب، وبالضوءِ المنبعثِ من الشاشةِ، والبصيص المتسربِ خجلاً من باب الغرفة.

    حلميَ الحالي أن أموتَ من التعب. من الوعي بالحقائقِ المنتقاةِ على شرفِ الخسارة. سأحدثكِ يا حبيبتي عن الخسارة.

    ***

    في يومٍ لم يتمكنْ فيه رجالُ الوطنِ من معانقةِ الشرف، سادت الفجيعةُ أرضَ الذاكرة. يومٌ لم يتغير فيه شئٌ عدا مستجداتُ الفقد في سبيل الوطن. إنه تغيير كافٍ ليجعلَ العالمَ يبدو أسوأ مما هوَ عليه الآن. سيتحدثُ الآخرونَ كما لو أنهم حريصونَ على المواساةِ أو التبريرِ المفتعل. لن أفعل ذلك. ثقي يا حبيبتي. ستجف الأحداث الدامية، وتموت الحياةُ من الذاكرةِ قبلَ أن يموتَ التذكر.

    كما يتم البحثُ في مقلبٍ للفوضى، بقلقٍ ولهفةٍ للعثور، برغبةِ الاهتداءِ ويقينِ التحقق.وكما هو إدراك حقائقِ الحياةِ في وقتٍ متأخرٍ من العمر، يكتمل اليومَ شعوري بالخزي التام تجاه كل الأوطان. لم نعد نريد وطناً، بل نريدُ مستقرَّاً.

    أعلمُ ما ينتابكِ، إنها لسعةُ وطنٍ يمتلئُ بالدبابير، فلماذا الاستغراب حبيبتي؟ لنجعل الأمر يبدو كما كنتِ تحدثيني في الهاتفِ، بوعيٍ جريح. ثمةَ من أماتته دبابيرُ الوطنِ، ليختنق ملسوعاً بوهمٍ وطني.
    فلتعترفي معي ، لستِ حانقةً ولا غاضبة، إنه خذلانٌ مثالي، فلماذا عدمُ الإعجابِ به؟
    ولماذا عدمُ الإيمانِ به؟

    الوطنُ أصبحَ بيئةً للتناقضِ العفوي، أتساءلُ لماذا لا يتم احتساب الخزي كأحدِ المشاعر الوطنيةِ اللازمِ توفرها من أجل الإيمان والعطاء. ما دامت الوطنيةُ في النهايةِ هي التخلي عن الحقدِ في مواجهةِ الاغتصاب العلني. وهي الاستسلامُ البرئ لمجموعةٍ من الأفكار الماكرة.

    الوطنية الآنَ يا حبي كئيبة، ومعوقة، كفكرتنا عن البؤس. فلا تتوقعي سيادةَ الإنسانِ ما دامت الدبابيرُ تواصلُ اللسعَ في غابةٍ من الفوضى.

    لنعتذر للإنسانِ في داخلنا. الراسبونَ من حولنا، الماكرونَ الخادعون. أشباه الحثالةِ والحيوانات يتحكمونَ في رغباتنا. عذراً أيها الإنسان. لو كان بيدِ أحدنا أن يكونَ إلهاً لاختار نفي هذه الأوطانِ بكل محتوياتها إلى ثقبٍ أسود.

    بعد عدةِ سنواتٍ من الآن، سيتذكرُ المارونَ بهذه الردهات المؤقتة لحفلة الفجيعة الصامتة، حفلتنا على شرفِ الفقد المشترك، في صباحٍ دون ضوء، سيتذكرون كلاماً كثيراً عن خُراء الوطن، وعن معنى الخسارةِ دون النظرِ إلى جدارٍ يابانيٍ قديم، نُقشت عليه قصيدةٌ تقول: لا يُمكنُ قراءةُ الخسارة، يُمكن فقط الشعورُ بها. حسناً حبيبتي، معَ خسارةٍ كهذهِ سيكونُ ممكناً ما هوَ أكثر من القراءة.علينا أن نُعدَّ الكلماتَ كي تصمدَ طوالَ أبدٍ ما، وتسببَ الحقدَ لمدةِ قرنٍ على الأقل. دون أن نُصاب بالحقدِ تماماً. دونَ مشاريعَ للغضب طويل الأمد.

    سأكتبُ وإياكِ الكلمات بوحيٍ من الدوامِ المستهلك. يا عشتار. عليكِ واجبٌ حياتيٌّ في الكتابةِ عن هذا الأمر، مثلما عليَّ تماماً. نحن زوجي الحمام الأبيضينِ والغائبينِ، المتوحدينِ، العاشقينِ بلا أسلوب، المجتمعينِ بلا لقاء. لا يُمكن لقدرٍ أن يمرَّ بطريقكِ ثم لا أحلمُ به. أو أبكي لأجله. فلتدعوني مساءاتُكِ لاقتحامِ فِجاجكِ البعيدة، ومشاركة الكتابةِ في أماسي الوحدة. والتعري بحضور العتمة.

    لن أواسيكِ كما قلتُ لكِ، ولن أتلو عليكِ بياناً جنائزياً حزيناً لرثاءِ ما ضاع، لكنني أعلمُ يا حبي، أنكِ ستتذكرين اغتيالَ ذكرياتكِ في موعدٍ متأخرٍ من الشيخوخة، وستبتسمينَ بألمٍ لما قد يعنيه التذكرُ في مثل ذلك الزمنِ القادم. ستودي بنا الأيامُ إلى متاهاتٍ غير معهودة، سوياً أو وحداناً، فدعينا نؤسسُ لتمريرِ رغبات العشقِ والموت المتحررِ إلى خاطر الأمنيات البعيدة، بينما يسعنا الآن الاستمتاع بحبٍ لا ينقضي عند الصباحِ، أو يتهور وقت المساء.

    ***
    كان جبريل فاريشتا في رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي يغني أثناء نزوله من السماء: ” لكي تولدَ من جديد عليكَ أولاً أن تموت. ولكي يستقر المرء على الأرض الناهد، عليه أولاً أنْ يطير. كيف يمكنكَ أنْ تستعيد الابتسام، إذا لم تبكِ أولاً ؟ كيف يمكنكَ أنْ تفوز بحب الحبيبة، يا سيد، إذا لم تتأوَّه ؟ ” ….

    لذا حبيبتي، سنعتبرُ ببدائيةِ الفلسفة، ونؤمنُ -ولو قليلاً- بتلك النظريات التي لاتقدر على إسعادنا، لكنها تكون كفيلةً بتسليتنا بينما نعثر على الحقيقة.

    الحقيقةُ التي تسببُ الهلعَ، والإدمانَ، والتشرد المعرفي في منتصف رحلةِ الإدراك. الحقيقة التي تبدأ بالسقوطِ من السماء. من أوهامِ المثاليةِ والوطنيةِ إلى فسقِ الواقع. ليسَ على أحدٍ أن يتخلى عن أفكاره ما لم يخسر نصفها، عندها يبقى النصف الآخر بلا قيمة سوى بالتخلى عنه، والبدء من أقصى نقطةٍ في مقدور التخلي.
    البدايةُ من العَراء، لا غير.

    ***

    ها أنا أواصلُ الكتابةَ. على الكرسي الذي أجلسُ عليه الآن، يقبعُ جسدٌ هامد، تخيطُ ملامحه خيوطُ الظل والنور المنبعث من شاشة التلفاز. تركيزي لا يتناغم مع أي شئٍ مما أشاهده أو أسمعه. فكري الآن يقبع على بعدِ أمتارٍ منكِ، يرقبكِ بغلائلَ بيضاءَ، تتمددين فوق سريرٍ للحزن، ودخان شفاف أبيض يتسللُ من سيجارةٍ تلتصقُ بشفتيكِ، فيضج الإحساسُ ببعدِ الرائحة.

    تُسليني عنكِ أحياناً رائحةُ المناديل. أشعر أني لو وجدتكِ فلن أجدَ لذةً لمناجاةِ المناديلِ بعد ذلك. ألفها على عنقي كما في يوميات الفيديو. أغمِّي بها عينيَّ عند الاسترخاء المتكاسل. ثم أرميها على المكتب بلا مبالاةٍ أو عرفان إعلاناً عن غضبٍ غير صريح.

    أفكرُ لو لم نكن غرباءَ في عالمٍ من التناقضات، لما كنا غير غاضبين في عالمٍ من الثورات. فماذا ينتظرنا، الغربةُ أو الثورة. يا لها من خياراتٍ إكلينيكية لعشقٍ يحلمُ أن يمدَّ جذوره خارج مساحةِ الحلم.

    لقد تعبتْ الحياةُ من تمنياتِ الأفضلِ التي نفرضها على أفكارنا الحياتية. لقد ضجَّت مشاعرنا من الأملِ الكاذب. لماذا لا نعاملُ الوقاحةَ كفضيلة، والاستبداد كرمزٍ للإنسانية، والخزي كشعورٍ وطني عام، لماذا لا تكون الخسارةُ هي مطلبٌ مُلح من أجل حياةٍ كريمة. الخسارةُ فريضةٌ على كلِّ مواطنٍ يرغب بالانتماء لهذا العالم. إنها الخلاصُ والنجاةُ والطريقُ المودي إلى آخرةٍ دونما تساؤلاتٍ كثيرة. سيكون الأمر كالتضحيةِ المستحبةِ من أجل الفوز بحياةٍ أفضل.
    من لم يخسر سيظل مرهوناً بخوفه من الخسارة، أما من خسرَ فقد أفضى إلى راحته.
    أيها الخاسرونَ المرتاحون، هنيئاً لكم.

    أيها الخاسرون المفجوعون، سيكونُ عليكم تعلم الحكمةِ أمداً قبل أن ترتاحَ قلوبكم، وقبل أن تثقوا أن ما تجاوزكم لم يكن ليبقى لولا رغبةُ الإرادة الإلهية في تقليدكم شرفاً سيبقى بكم، ويتجاوزكم إلى من بعدكم.
    وأنتِ يا حبيبتي، أيتها الخاسرة الأجمل، لنرقص. فعليَّ دينٌ أوفيه بتحملِ تبعاتِ هذه الحكمة المجنونة، وأظنني سأتماثلُ لسداده حين أجدُ خطاباً منكِ يُخبرني بروعةِ الحياةِ على شرفِ الخسارة، وبطريقتكِ الجديدة لرقصةِ الخسارة.

    15 مايو، 2006

  • رسالةٌ إلى مالك

    لا أتوقعُ يا صديقي أني رأيتكَ سوى في الصور. ولكني أعرفكَ جيداً. قرأتُ كثيراً مما كتبته في مدونتك. لم يؤلمني خبرُ اعتقالكَ بقدرِ ما آلمني أني لا أتحلى بمثل عزيمتكَ لمواصلةِ النضال بهذه الصورة، بتلك الابتسامة الهادئة، والإحساسِ المتزن، والشعور بالجدوى.

    قد أختلفُ معكَ في طريقةِ ظهوركَ، وفي طريقةِ الأداء. وقد أختلف معكَ في الطريقة التي تُبينُ بها عن اعتراضك. صدّق أو لا تُصدق، قد أكون مقتنعاً بأفكارٍ أخرى، مؤمناً بإيمانٍ آخر، ولكن يؤلمني أني لا أعتقدُ مثلَ اعتقادكَ، ولا أتمثلُ بمثل أفكارك. أتعرفُ يا مالك، أكثر ما ينقصني حالياً هو الشعور بالجدوى.

    قرأتُ أنهم اعتقلوكَ في السادس والعشرين من إبريل نيسان، أي أنه مضى عليك تقريباً خمسة عشر يوماً في الاعتقال الآن. لا أدري هل سيقرروا الإفراج عنكَ كما قالوا في البداية، أم أنهم سيوجهوا إليكَ تلك التهم الرديئة مُجدداً، ويعاودوا فعلَ القباحةِ بسجنكَ حتى حين. المهم أني في يوم اعتقالكَ كنتُ أقرأ روايةً لماركيز، تتحدثُ عن العزلة. بالتأكيد تعرفُ اسمها: مائة عامٍ من العزلة. وضعتها جانباً، حاولت أن أزيحَ عن ذهني المشاهد الأخيرة للجنرال أوريليانو بوينديا، قائد الثورة ورئيس الحزب الليبرالي العنيد، وعن مزاجه الثوري المعقد، وهدوئه الذي كأنه جبل من صمت، وأفكاره الموغلة في الغرابة، وصبره اللامتناهي على صنع السمكات الذهبية، وزخرفتها ، وحياكة أدق تفاصيلها، ثم صهرها على النار لإعادةِ صناعتها من جديد. وضعت كل هذا جانباً لأكتب لك رسالةً آمل أن تتمكن من قراءتها، لتعرفَ أن أحداً ما لم يكن يفكرُ في مجرد مواساتكَ، أو إظهار الانزعاج مما حدث لك. إنني على عكس ذلك، أحصي الإيجابيات المتعلقة بهذا الأمر. أفكرُ أنه لو لم يعتقلوكَ لما تسنت لي فرصةُ معرفتك جيداً. ولو لم يعتقلوكَ لما كان هناك المزيد من الحِراك. لقد أحدثتَ بعض التغيير يا رجل. وأعتقد أنه تغيرٌ إيجابي. إنني فقط آمل ألا تنقضي مناسبة اعتقالكَ عبثاً دونما صرامةٍ حقيقيةٍ في الاعتراض، دونَ أن يشعرَ القومُ بكارثيةِ ما يفعلوه. آملُ ألا يبقى الوضع على ما هو عليه قبل اعتقالك. أتمنى أن تعود إلينا فتجد العالم مكاناً أفضلَ مما تركته، ولو بمقدارِ أمل.

    هذا، وبلغ تحياتي لرفاقكَ في السجن. وذكرهم بتلك المقولة التي يقولها الألماني فرانز كافكا: وحتى لو لم يأتِ الخلاص، فإنني أريدُ أن أكونَ جديراً به في كل لحظة.

    10 مايو، 2006

  • الضحايا، بإهمالٍ ما، هم نحنُ الغارقون

    من المؤسفِ ما يحدثُ حقاً. سنةٌ جديدة، وهناك أكثر من كارثة، على أكثرِ من وجه. أصبحَ الإنسانُ حائراً بأيِّ شئٍ يتأثر. ولأيِّ سببٍ يحزن. ما بينَ المصائبِ الإسلامية والقومية والإنسانية والشخصية، توزعت خفقات القلب المكلوم.

    الأنباء متضاربة، ولا أحدَ يقبلُ بتحملِ المسؤولية. الحكومة المصرية تدفعُ عنها الاتهامات بحجة أن السفينة كانت ترفع علم بنما، والقانون المصري لا يسري على أي سفينةٍ ترفعُ علماً أجنبياً.

    شركة البلاغة للشحن، الشركة المالكة للسفينة، تدفعُ عنها الاتهامات بأن السببَ هو البحر، وأن الأحوال الجوية كانت سيئة، وتقول بكل براءة – أو بكل سذاجة – أن الرحلات السابقة التي أجرتها العبَّارة السلام 98 كانت ناجحة. وتحسبُ أن هذا يُعدُّ دفعاً للإهمالِ، ولاغياً للتقصير والاستهتار الحاصل.
    للأسف، فإن ما سيحدث، هو استكمال مسيرة التحقيق الرسمية – والزائفة غالباً – وسيتم رمي الفتات من التعويضات لأهالي الضحايا، أما الشركة المالكة فستثبت بأقذر أسلوب ألا دخلَ لها في الأمر، وأنها خسرت خسائر فادحة. ويظهر مالكوها وهم يُبدون بعض التأسف لأرواح الضحايا، ويعتذرون عن سوء الحظ، ويتمتمون ببضعة كلمات تمدح الإيمان وتُقرر القضاء والقدر. ثم ينجون بفعلتهم، مع بضعة ملايين من التعويضات التي لا يستحقون فلساً واحداً منها. هذا هو الأسلوب المُتبع هنا، حيثُ لا شرفَ ولا ضمير.

    بالنسبةِ للحكومة، فقد كان واجباً على الرئيس مُبارك أن يطير بسرعة إلى الغردقة، وتُلتقط له بعض الصور بجانب الضحايا المختارين سابقاً، لتكتب الصحافة عن الأب الحنون مُبارك، أولُ المداوين. كما يجب أن تُقام بعض العروض المسرحية يُندد فيها الوزراء، ويجتمع أعضاء مجلس الشعب، ليقرروا في النهايةِ أن هذا الإهمال لا يُمكن السكوت عليه، ويجب تغيير الأوضاع لتجنب تكرار ما حصل.

    لقد صدقَ من قال: هذه حكومةٌ قذرة، حرقَ الله قلوبهم، وأفجعهم حتى لا يعودون يعرفون طعماً للأمانِ أو الراحة.

    أما عن الضحايا، فهم شهداءُ الله في بحره. وذويهم وارثوا الحزنِ الأزلي، والحسرةِ السائرةِ بهم حتى مسافةٍ بعيدةٍ من التذكر.

    هم صوتُ المأساةِ الذي يتكررُ في كلِّ كارثةٍ إنسانيةٍ تصرخُ من قلبِ الإهمال. عابروا الأعماق. بسرعةِ الغرقِ يعبرون. بسكونِ الاستسلامِ لقدرٍ محتوم. الأمواتُ غرقاً، كقصةٍ بنهايةٍ حزينة. كقصيدةٍ تائهةٍ لا تهتدي لمعالمِ التفجع. كرثاءٍ منقوص. لا قبرَ لهم غيرَ هذا الواسعِ الأزرق. لحومهم ذائبةٌ في الملحِ، أو مهضومةٌ في بطنِ القرشِ، أو سارحةٌ مع التيار الجنوبي.

    لهم تلكَ الرحمةُ، رحمةُ الشهيد. ومميزات الشهيد. يدخلونَ الآخرةَ كالفاتحين. يُحاسبهم اللهُ برفقٍ وتفهم. لقد عانيتم كثيراً يا عبادي. لقد غرقتم في بحري.
    لهم تلكَ الرائحة – رغمَ الماءِ والملحِ – رائحةُ الشهيد. لهم ما يُتيحُ لهم الغرق. موتٌ صامت بالاختناق. غصة بالماءِ دونَ ارتواء. نظرة شفافة من أمٍ لابنها، هيَ الوداعُ ووعدُ اللقاء. لهم كل شئٍ ليسَ لنا، ولنا فقط أن نكتبَ عنهم بكلِّ احترام، وبكلِّ خشوع. لقد اختيروا هذه المرةَ نيابةً عنا جميعاً، ونحن سننتظر ونشهدُ المزيدَ من الحياة.

    فانتظروا يا أيها المنتظرون.

    9 فبراير، 2006

  • دَابَادَا

    للفنان الكويتي  سامي مØÙ…د

    كلمة الغلاف الأخير:

    دابادا: هي صَرخَة في الفراغ..

    تَشهَد نضال الإنسان ضد الموت التدريجي.

    إنها رَفسَة مُوَجَّهَة قبل حُلول الزَوال، لبعض الناس الذين يَرفَعون إنسانيتهم إلى الأعلى فيَخرُجون عن إطار الجَذب الاجتماعي ويَدخُلون في صفحات الأسطورة.

    إنها لا تُرَسِّخ اتجاهاً مُعيَّنَاً ولا تُدافِع عن مَدرَسَة أدبية، وإنما تتحَدّى قُدسية التراث الروائي بأكمَله، وذلك، فهي تشبه قصيدة غليظَة مَشحُونَة بِحِس الفَجِيعَة المُضحِك، غائرة في التراث الاجتماعي لسُكان وادي الرافدين حتى عَصر آشور بانيبال، وربما كانت “تَمريناً شاقَّاً لِتَعَلُّم الخطأ” كما يصفها كاتِبها الذي يقول أنه كَتَبها ليحمي نفسه من القُراء.

    الرواية من تأليف حسن مطلك ، وهي جديرة بالقراءة .

      الطبعة الأولى، سنة 1988، الدار العربية للموسوعات، بيروت
      الطبعة الثانية، سنة 2001، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة

    لتحميل الرواية ، اضغط بالزر الأيمن

    3 أكتوبر، 2005

  • الأدبُ فعل تمنع وتمتعٍ ومقاومة

    رسالةٌ إلى صديقةٍ جيدة .

    وتعليقاً على فكرتكِ عن دور الأدب في خلقِ ردةِ الفعل ، أو في خلقِ التفاعل .. أقول :

    الأدبُ يا سيدتي هوَ فعلُ تمنعٍ ومقاومة ، لا فعلُ تمتعٍ فقط . والأممُ غالباً تنهضُ بنهضةِ أدبائها أولاً ، وليس علمائها . لأن الحياةَ العلميةَ الخالصة ، هيَ حياةٌ مملةٌ مزهقةٌ لروحِ الإبداع .

    ألم تقرأي لألبرت أينشتاين وهوَ يحكي عن اكتشافه للنسبية ، قال :

    ” لم أكتشف النسبيةَ وأنا في معملي ، أو بين المعادلاتِ والأرقام ، بل اكتشفتها وأنا مستلقٍ على تلةٍ خضراءَ ، وسافرتُ بفكري معَ شعاعٍ شمسي ، وكنتُ أرفضُ أن أعود . وسرحتُ بخاطري معَ خضرةِ الحقولِ ، ومرجِ الأرضِ.. وكنتُ أدعُ نفسي تتعجبُ وتنبهرُ بالجمال ” .

    فالأدبُ ضرورةٌ وليسَ خياراً .. ليسَ مِمَّا يُمكننا الاستغناءُ عنه بسواه .. فلا يُمكنُ أن ندع الأدب ونكتفي بالفسلفةِ مثلاً ، زاعمينَ أن الفسلفةَ أجدى ، وأكثر منطقية . فما سنفتقده هنا هوَ جدوى الفلسفةِ في إمتاعنا ، وأيضاً تحريضنا على الإحساس والشعور .. فلن تهدينا الفلسفةُ منطقاً مقاوماً أو متفاعلاً أبداً ، لأن المقاومةَ تُعتبرُ فكرةً غير منطقية بالنسبةِ لعلومِ الفلسفةِ والمنطق .

    إن الحنينَ إلى الأدب ، إلى الإنصاف ، إلى المثالية ، إلى القيمِ الساميةِ ، يبدأُ منذ أولِ إحساسٍ جميلٍ تهديهِ إليكِ الكلماتُ التي تقرأينها ، ومعَ أولِ فكرةٍ مبدعةٍ تجولُ في خاطركِ المرهف . وهوَ قرينُ الرغبةِ إلى الفعلِ المماثل ، والكينونة المماثلة .

    وسرعانَ ما يتولدُ من الإعجابِ هذا ما يشبهُ الرفض ، رفضُ ما يسجنُ الإرادة ، والتأكيدُ على الحريةِ المنافيةِ للإجبار ، والزمن ، والتقاليد ، واللغة ، وللدعواتِ القمعيةِ ، وللرجالِ الخارجينَ من بطونِ التراث ، الذينَ انتهكوا قدسيةَ التاريخِ ، وأتوا بهِ يرسفُ في ذكرياتهِ ليكونَ منهجاً حاضراً للزمنِ الحديث .

    الإنسانُ هوَ اختيارُه ، واختيارُهُ هذا علامةُ حريتِهِ وشعارُ مجدِهِ . والإختيارُ فعلُ تحركٍ نحوَ الآتي . وإبحارٍ نحوَ الأفضل . إنه وصلٌ للإنقطاعِ الذي يفصلُ بينَ زمنِ الرمادِ وزمنِ الورد ، بينَ أزمنةِ الذاكرةِ ، وأزمنةِ التخيل .

    الرفضُ يا سيدتي علامةُ الحياة .. ودليلُ الابتداء .حتى الجنينُ عندما يضربُ بطنَ أمه ، يبدأ حينها مشوارَ تمرده .. إنه يريدُ أن يخرج . يريدُ أن ينطلق . ولهذا فهوَ يضربُ برجلهِ ، ويتحركُ ويتململُ في مكانه ..حتى يخرجَ فيكونُ أوَّلُ ما يفعله هوَ البكاء ، والاعتراض على وجوده الجديد ، وواقعه الجديد .

    ولعلَّه كان محقاً من قالَ : تبزغُ شمسُ الحقيقةِ بالضرورةِ حيثُ ينهضُ التمنعُ والمقاومة .

    عندها يُولدُ الفكرُ الحر .

    دمتِ لي سيدتي الفاضلة .. وها أنا أجدُ بكِ عوضاً رائعاً عن أشياءَ كثيرةٍ تنقصني .. فأنا إلى الآن أعاني عدمَ الاستقرار ، والتشاؤم .. في الحقيقةِ أصبحت لي أكثر من عادةٍ سيئةٍ منذ وصلتُ إلى قاهرةِ المُعزِّ هذه ، والتي هيَ الآن مقهورةُ حسني غير المبارك . وكونكِ دائمة السؤال والاطمئنان عليَّ ، ودائمةَ التحريضِ لي على الكتابة ، فإنكِ تُعتبرينَ بمثابةِ رقيبٍ على نبضاتِ قلبي تزجرينه إن توقف لحظةً عن النبضِ زُهداً في الحياةِ ، وفي كلِّ شئ .

    دمتِ لي محرضةً ، ومشجعةً .. ودمتُ لكِ متفاعلاً مثالياً ..

    ألتقيكِ على أدبٍ عزيزتي ..

    1 أكتوبر، 2005

  • أَنْخَابٌ لِلْكِتَابَةِ

    لا أعرف الفنان

    كتابتي كلها نخب الجمال .

    نخبَ كل ما أؤمنُ به . وإن كان ليسَ من عادتي الكتابة بهذه المباشرة في السرد ، لكنني معَ ذلكَ أجدني أفعلُ ذلكَ بكلِّ تمتعٍ نقديٍ أحصلُ عليهِ بالسخريةِ من واقعي وواقعِ من حولي في حالةِ كانَ بائساًَ ولو بمقدارٍ لا يعجبني .

    أكتبُ نخبَ أصدقائي المدحورينَ على قارعةِ الأيامِ ، يتسولونَ من الدنيا حظاً طيباً ، أو ينامونَ على حلمِ الاستقلال الذاتي المرتبطِ بالاستقلالِ المادي ، ويجاهدونَ دائماً ليكونوا بخير . أكتبُ نخبَ انهيارِ الجمود ، والثورةِ على العاداتِ البليدةِ المتحجرة . أكتبُ صريحاً لأني لا أحب الزيفَ أو المزيفين . ولا أحبُّ الأفاكينَ والبطالينَ والمدَّعين .

    أكتبُ كمراهقٍ في طورِ النضجِ ، أضجره كلُّ من حوله ، محاولين قدرَ جهدهم إيهامه بأنه أبداً مراهق ، وهوَ لا يريدُ أن يظلَّ كذلك . أكتبُ كحكيمٍ نالَ من الحكمةِ فجأةً ما لا يُقدرُ بكنوزِ قارون ، كشاعرٍ باشرَ الرؤيا وانهالَ عليهِ إلهامُ البصيرة ، كروائيٍ منشغلٍ بتحويلِ الواقعِ إلى فنٍ أدبي ، كمؤرخٍ يؤرخُ لأحداثٍ لن يذكرها أحدٌ بعدَ ذلكَ ، لأيامٍ لن تعودَ دورتها أبداً للوجود .

    وأجدني في هذا العالمِ المريض ، لا أدخرُ جهداً في محاولةِ شرحِ الأمورِ من وجهةِ نظري ، رغمَ علمي التام بأني أسبحُ ضدَّ التيار ، وأسيرُ عكسَ اتجاه السير . وبأن من سيقرأونَ كلماتي هذه من الكبار ؛ سيلعنونني معَ أولِ لفظةٍ تخرجُ من أفواههم ، ويحدقونَ بي معَ أولِ نظرةٍ تتهمني بها عيونهم . وسيحاولونَ ردعي بكلِّ الوسائل ، ويطاردوني بكلِّ الأماكن . لكنني لن أكون هنا . ولن أذهبَ إلى هناك . سأختبئُ في أوهامِ الجميعِ حتى أبيدها ، وأصلي بعدَ ذلكَ من أجلِ أن يكونوا قد فهموا أني لستُ الشريرَ كما يبدو ، ولكنني ضحيةٌ تعرفُ كيفَ تتألم بمنطق ، وتحولُ ألمها إلى درسٍ وعبرة . بل وإلى روايةٍ أكتبها بمنطقِ السخرية الحكيمة .

    26 أغسطس، 2005

  • ثرثرة فارغة عن تفاصيل لا تهم أحداً

    لم يسبق لي قطُّ أن ابتلعتُ إنساناً، لأنه لم يسبق لي أن كنتُ سمكةَ قرشٍ ولا كنتُ فرداً من أفرادِ قريشٍ، ولم أكن حتى وقتٍ قريب أتناول طعامي براحةٍ تامةٍ في وجودِ أحدٍ لا تربطني به علاقة ، لذلك فلم أكن أفضلُ الأكلَ في المطاعمِ العامةِ ، أو في السيارةِ ولا حتى في الحدائق عندما يخرج الجميع للنزهة .

    وعلى أساسِ هذه الخلفية البسيطة ، فإنكم ستقدرونَ أنني شخص مسالمٌ جداً ، هادئ جداً ، خجول جداً في التعاطي مع الآخرين الذين لا أعرفهم ، سلبي جداً في التجاوب مع الذين يكرهونني ، إنني أمقتهم بصدقٍ شديد تماماً كما أحب بصدقٍ شديد . ولكن ذلكَ لا يمنعُ احترامي لبعض أعدائي وكذلك بعض أصدقائي اللدودين . إلا أنني أعترفُ بجنوني وجنايتي أحياناً في التعامل مع أولئك الذين شاءَ الله أن يبتليهم ، و اقتضت حكمة السماء أن يتعرفوا بي ، أو تكون لهم علاقة أو مجرد حضور في محيطِ وجودي ، ويعيشوا بعضاً من لحظاتي الحميمة والسخيفة على حدٍ سواء . وأغلبُ هؤلاء من الذين أحبهم ويحبونني .

    أحب أيضاً أن أخبركم بأنني واجهت عدةَ مشاكل سببها الرئيسي هو الانطواء وعدم الخبرة في التعاطي مع الآخرين ، وبخاصة العوام . فمثلاً أنا لا يُمكنني ردُّ الإساءةِ بمثلها لمن يتعرض لي ، أو يحاول الإساءةَ إلي ، على الرغمِ من أنني أغضب جداً ، وأشعرُ بطاقةٍ هائلةٍ تتكون في داخلي بمجرد أن أتعرض لوضعٍ لا يُعجبني . غير أن استخدام هذا الغضب وهذه الطاقة الهائجة في رد اعتباري أمرٌ لا أتقنه كثيراً .

    أيضاً إنني من صنفِ أولئكَ الأشخاص الذين يمتلكونَ قدرة جيدةً على الإقناع ، والتحدث بالمنطق . إنني أحب هذا الأمر كثيراً . غيرَ أن ما فشلتُ فيهِ بجدارةٍ هو إقناعُ والدي بما أريد ، أو بما يتوافق مع مقتضيات المصلحة العامة للأسرة وللبيت . وكذلك الحال مع والدتي المتدينة جداً ، والتي لا تكاد تقبلُ بأمرٍ جديدٍ لم تقرأه في كتبِ الفقهِ والحديث. إن هذا الأمر يصيبني بحنقٍ شديد . فمع أنه ليسَ ذنبي ، إلا أن ثمةَ تداعيات لهذا الأمر تمتد إلى الخلاف حول كل التفاصيل المتعلقة بكل ما أفعله . إن تواجدكَ في محيطٍ يرصدُ تفاصيلَ حياتكَ كي يستخرجَ منها ما يصلح للوم والتوبيخ ، كرغبةٍ في إثباتِ وجهةِ نظرٍ تقول بأنكَ خاطئ في كل ما تفعله ، وكل ما تفكر به ؛ لهوَ أمر مضجر للغاية . في الواقع إنهم يعتبرون أن حياتي نفسها خطأ من الأخطاء التي ارتكبها والدي في لحظةِ نشوة . وللأسف لم يكن يدري أن لحظةَ نشوته هي ذاتها لحظة مجيئي من العدم . فمثلاً من التفاصيل اليومية التي قد يحملونها على غيرِ محملها ، ويعممونها على حياتي كلها ، شاملاً ذلك ما أقرؤه وأكتبه وأعتقده ؛ أنني من الزبائنِ الجيدين بالنسبةِ للبائعينَ والمستفيدينَ من مزاجي المعقد الذي لا يتحمل الفصال ، أو التدقيق في البضاعة ، وبناءً على هذا ، فإنني غالباً ما أكون سببَ ثورة والدي لمجرد أني اشتريت شيئاً لم يعجبه . وغالباً ما يصفني بالزبون ” اللقطة ” .

    أيضاً فإن قصورَ خبرتي في مجالٍ معين ، كمجال إصلاح السيارات مثلاً والتعامل مع الورش وفحص عجلات السيارة وغير ذلك ، غالباً ما يُعدُّ طعناً في حياتي كلها لمجرد أني أخطأت في التصرف بشأن بعض أمور السيارة . أليسَ ذلكَ عجيباً في رأيكم ؟

    إنني أسوقُ هذه الأمثلة لأدللَ لنفسي أولاً على أنني فاشلٌ في الحياةِ العامة ، وربما لا يعنيني أن أحكي لكم ، بقدر ما أرغبُ أن أجعلكم شهوداً على فشلي ، أريدكم أن تساعدوني وتكونوا نِعمَ الشهود ، وتكونوا لي خيرَ المؤيدينَ في كل ما أقوله . ليس لأنني كذلكَ فعلاً ، ولكن كي أقتنعَ أخيراً بأنني لا أصلح للشراء ، أو التعامل مع المواقف الحياتية المختلفة . إنني أريد أن أثبتَ أن والدي على حق في كل ما يقوله عني . أريد أخيراً أن أصدقَ ذلك ، لأني تعبتُ من تحملِ كل ما يصفونني به . تعبتُ من الدفاعِ عن شرفِ وجودي ، ومثاليةَ تصرفاتي . أريد أن أصدقَ ذلكَ في نفسي كي لا يؤلمني بعدَ ذلك أن يصفني أحدٌ بالفشلِ في أي أمرٍ آخر .

    أرجو أن تصادقوا على فشلي ، وأن تتعظوا جيداً ولا تكونوا مثلي .

    وفي مقابلِ ذلكَ كله ، فإنني أنوي ألا أسكتَ عمن يرغب بتمريرِ النصائحِ في ثنايا اتهامه لي بالفشل . أعدكم أني سأكون ناراً حارقة على كل من يحاول أن يتذاكى على حسابِ رهافةِ حسي ، وتعقيد مزاجي . سأكون سيفاً أزرقاً من اللهب مسلولاً على كل من يحتقر الجمال الذي أؤمن به وأحاول أن أعيشه في كل لحظاتي .

    26 أغسطس، 2005

الصفحة السابقة

الهاوية، جميع الحقوق تسقط

+971559404239